دور الضباط العثمانيين في بناء العراق المعاصر

TT

ينطبق قانون الاستمرارية على السياسة والاقتصاد مثلما ينطبق على الفيزياء والفلك. العراق الحديث مثال على ذلك. وهو ما يجهله الكثيرون. بسبب النزاع الطويل بين تركيا وإيران، اعتبر العثمانيون شيعة العراق موضع شك. اعتبروهم يدينون بالولاء لقم لا لإسطنبول. لم يفتحوا لهم الباب في الجيش والإدارة. اعتمدوا على أولاد السنة. امتلأ الجيش والإدارة بهم. ولما كانت أجزاء كبيرة من أوروبا في قبضة العثمانيين فقد أعطاهم ذلك فرصة الاحتكاك بالحضارة الغربية وتعلم فنونها. من قادوا مدرسة الفن العراقي المعاصر في العشرينات من الرسامين والمصورين، كالحاج سليم وفتحي صفوة وناصر عوني وعبد الرحمن عارف، كانوا من هؤلاء الضباط.

اتجه الشيعة للتجارة والحرف ومن عشق المعرفة منهم ذهبوا للنجف وقم لدراسة الأدب والشعر والفقه الجعفري وعلوم الدين. لا فائدة من دراسة العلوم الحديثة طالما أغلقت الدولة في وجوههم أبواب العمل لديها.

وعند اندلاع الثورة العربية، فر الكثيرون من أولئك الضباط والتحقوا بلواء الأمير فيصل ولورنس العرب في الزحف على دمشق. كان منهم نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وطاهر محمد عارف وعبد الرحمن عارف وسواهم من الكثيرين الذين سماهم الأتراك «عرب خيانت». كثيرا ما كنت أسمعهم يتكلمون فيما بينهم باللغة التركية. كان منهم جميل المدفعي الذي برع في قيادة المدفعية العثمانية في حرب البلقان. واعتمد الرعيل الأول من الأطباء العراقيين الذين ساهموا في تأسيس كلية الطب وكل الخدمات الطبية في العراق على من درسوا الطب في إسطنبول وألمانيا والتحقوا ضباطا بالجيش العثماني كسامي شوكت وأخيه صائب شوكت. مما يذكر أنهم جميعا تحمسوا لفكرة القومية العربية بعد تأثرهم بالفكر القومي الأوروبي، فأسسوا في بغداد نادي المثنى الذي أصبح بؤرة للحركة القومية.

ما إن أعلن تأسيس المملكة العراقية في 1920 حتى التحقوا بها وكان من الطبيعي للملك فيصل والإنجليز أن يكافئوا أولئك الضباط على دورهم في الجهاد. وعلى أي حال لم يجد فيصل ولا المس بيل في الساحة أحدا سواهم له من المؤهلات والخبرة في قيادة الجيش والشرطة والإدارة والخدمات الطبية. فملأوا مناصب الدولة بهم. وبالطبع جاء هؤلاء السادة بأقاربهم ومحسوبيهم وملأوا بهم الصف الثاني من المناصب. الأقربون أولى بالمعروف. سرعان ما اشتكى أبناء الشيعة من هذه الهيمنة السنية على الدولة التي جرت بصورة طبيعية بحكم الاستمرارية للعهد العثماني وما خلفه من طبقة الضباط.

ازداد الأمر تعقيدا بتسرب القانون نفسه، قانون الاستمرارية على الساحة العسكرية. استمر النزاع الإيراني - العثماني القديم ولكنه تحول الآن إلى نزاع إيراني - عراقي، بعد أن ابتلعت إيران ولاية الأحواز العربية في 1925 ثم انتقلت لمنازعة العراق على السيطرة على شط العرب. تأزم الوضع عام 1936 وكاد يفضي إلى الحرب لولا تدخل بريطانيا. تأجل الحسم ولكنه ظل يغلي مما حمل القيادة العراقية إلى التشبث بالاستراتيجية العثمانية وآيديولوجيتها حتى حل الأميركان محل الإنجليز فنسفوا تلك الاستراتيجية عام 2003.