تفاقم الحاجز بين الواقع والحلم

TT

كان للإنسان العربي عبر التاريخ أن يشهد الكثير من اليوتوبيا الخلاصية، لم تكن الإيديولوجيات فقط هي من حملت المجتمعات العربية عبء هذه المثاليات، بل كان لموجات دينية مختلفة المساهمة الأعمق فيها، ولأن العالم جميعه عاش عبر مراحل مختلفة من التاريخ هذا الصراع القاسي بين النظريات المثالية للحياة وبين الواقع الحقيقي الذي استحال على هذه اليوتوبيا، لن تكون المجتمعات العربية في معزل عن المآلات التي وصل لها العالم في صراعه هذا، ولذا فإن حقوق البشر هي المصير الحالي الذي آل إليه هذا الصراع الطويل، ربما هو ليس مصيرا أبديا، لكنه مصير واقعي وأكثر نجاحا على تحقيق شيء من هذه القيم والمثل الاجتماعية والسياسية التي كان الإنسان يحلم بها.

حقوق الإنسان ليست نتيجة إيديولوجيا واحدة، بل هي مجال صراع مجموعة كبيرة من مختلف الإيديولوجيات، لكن الخطابين الأكثر تأثيرا وتشكيلا لها كانا الخطاب الليبرالي والخطاب الاشتراكي، وفي العالم العربي لا تبدو فكرة حقوق الإنسان قد حلت محل اليوتوبيا الخلاصية تماما، ولا يظهر أن النخب العربية أو الجماهير تجد في حقوق الإنسان المآل الواقعي لفكرة الخلاص، ما زالت المجتمعات العربية لا تسعى للحقوق ولا تسأل عنها، ليس لأنها لا تؤمن بكل ما تحمله من قيم ومُثل، بل لأنها لا تزال عالقة بيوتوبيا الخلاص، بينما الحقوق تميزت بكونها شكلا من اليوتوبيا الواقعية البراغماتية القابلة للتحقق، فهي لا تصطدم بالدولة، بل تنفذ من خلالها كإجراءات وقوانين، لا تنزع إلى إلغاء الواقع السياسي أو إبداله، بل إلى توظيفه لمعاني جديدة، بينما اللاوعي الجمعي العربي ما زال عالقا بالأفكار الشمولية التي تجمع الدولة والمجتمع والدين والسياسية في مآل واحد، تؤمن المجتمعات العربية بأن الخلاص يكون شاملا كاملا بما يشبه المسحة السحرية التي تضفي بركاتها على كل شيء وبنفس الطريقة، ما زالت معظم الخطابات العربية تقدم رسائلها في خلاص البشرية من خلال دعوة دينية دغومائية أو وجدانيات قومية مجروحة، أو ما يندرج في هذا السياق. ما زالت الخطابات العربية متنازعة بين إسلام سياسي يعادي ضميره الدولة الحديثة، وإن ركب حصان الديمقراطية، وبين خطاب قومي اشتراكي يضخم الدولة ويلقي كامل العبء عليها، ويقدس سيطرة السياسي فيها.

يفاقم من أزمة الثقافة العربية هذه الخطابات الجديدة التي تبدو آخيرا قد وصلت للمآل العالمي لحقوق الإنسان، لكنها للأسف أخذت تنتزع هذه الحقوق من آلياتها الواقعية لتدحشها ضمن خطاباتها الشعبوية، لقد استغلت الحقوق في استثمارات وجدانية ضيعتها في ذات الحلقة القديمة من اليوتوبيا المستحيلة، ولأن حقوق الإنسان أولا وأخيرا جزء أساسي من الديمقراطية، فقد ساعد في استغلالها اليوم الموجة العالية التي انفجرت في ظل الثورات الأخيرة، موجة من الفوضى الخطابية اختلطت فيها الأفكار السياسية الحديثة بمورثات الدول وليدة الاستعمار، بالإضافة إلى كل ما اختزنه اللاوعي الجمعي من مصطلحات ومفاهيم دينية وثقافية، لن يكون مهما في ظل هذا الاستثمار الفاشل للحقوق أن تطرح الأسئلة حول من هو المعني ومن هو المسؤول في عملية الاستغلال هذه، أسئلة من نوع: هل كانت هذه الخطابات تقصد استغلال الحقوق أو أنها أخطأت فقط الطريق إليها، جميعها اسئلة لا اعتبارية أمام هذا الانسداد الفكري الذي تواجهه الشعوب العربية ثقافيا، لقد تفاقم الحاجز بين الواقع والحلم في الخلاص بالنسبة لسيكولوجية الإنسان العربي، لقد اختطفت هذه الخطابات الفاشلة المآل الواقعي لفكرة الخلاص بمجرد استخدامها لمفاهيم الحقوق كشعارات معارضة أبعد ما تكون عن ممارسة العمل الديمقراطي الحقيقي.

يبقى في الضفة الأخيرة من كل هذا عدد من الناشطيين الحقوقيين الذين يقدمون عملا وجهودا حثيثة في أرض الواقع، لكن أثرهم يظل ضعيفا ومنعزلا، فالمؤسسات التي لا تعاديهم هي في أحسن الأحوال تهمشهم ولا تدعم مساعيهم، والجماعات السياسية تستغل أسماء الناشطين وجهودهم في ترويج أجنداتهم وفي تجيش الجماهير خلفهم، والثقافة الاجتماعية تضعهم في مأزق أكبر من الرفض، حيث خطابهم المدني غير المنسجم مع التراث والفكر المتعصب ضد أي جديد، هذه الضفة التي لا تهول ولا تهلل يضيع صوتها العقلاني وعملها العملي بين كل هذا السعار الخطابي السياسي والديني المعارض والحاكم على السواء.

في الدول العربية الخليجية تبدو الصورة أقل حدة على كل المستويات، وبين الحقيقة التي تؤكد بساطة المرجعية الثقافية في المجتمعات الخليجية، التي لم تكن تحت التأثير المباشر للتقلبات السياسية والفكرية الشديدة، وبين الحقيقة بأنها تعيش في منطقة أكثر أمانا واستقرارا حاليا، يكون السعي نحو حقوق الإنسان في سياقه الصحيح من العملية التي لا تصادم الدولة ولا تستفزها، لتبقى الفرصة قائمة للحفاظ على الطابع البراغماتي الذي يضمن إقرار حقوق البشر بمباركة من السلطات الحاكمة نفسها إن لم يكن بمبادرتها.