الخداع الأميركي في المخيلة الإيرانية

TT

«إذا كان لدى الأميركيين الجرأة، فلينقضوا اتفاق جنيف، ويروا ما يمكن أن نفعله». يتوقف هنا تصريح رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني، ليعيد معه الإشكالية القديمة المتجددة بين الطرفين التي تتمثل في فقدان الثقة التي تأخذ بدورها بعدا آخر لدى النظام الإيراني، بحيث تصل إلى التخوف من الخداع الأميركي والتنصل من الوعود.

هذا التخوف في حقيقته ليس وليد اللحظة، بل لا تزال المخيلة الإيرانية تستحضره منذ الخمسينات، وتحديدا منذ الانقلاب الذي قامت به المخابرات الأميركية والبريطانية على حكومة مصدق عام 1953، وأعادت في أثره محمد رضا شاه من جديد إلى السلطة. آثار ذلك الانقلاب لا تزال قابعة في الشخصية الإيرانية وهو ما ينعكس على الدوام في تصريحاتها وردود فعلها.

المرشد الإيراني لا يكاد يفوت فرصة في تصريحاته إلا ويشير إلى عدم ثقته بالولايات المتحدة، ويأتي تصريحه الشهير حين أشار إلى ما آل له مصير الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بعد أن تخلى عن برنامجه النووي. لم يكتفِ المرشد بذلك، بل أضاف في أحد لقاءاته: «التجارب أثبتت أن أي شعب ودولة وضعت ثقتها في أميركا، تلقت ضربة منها حتى ولو كانوا أصدقاء لها، فوثوق الدكتور مصدق بأميركا قوبل بانقلاب عام 1953م، وخذلانها لمحمد رضا بهلوي».

لا يتوقف هذا الأمر عند المرشد، بل لقادة الحرس الثوري الكثير من التصريحات التي تسير في هذا الركب، ويأتي أعضاء من البرلمان الإيراني ليدلوا بدلوهم في هذا الشأن، عضو هيئة رئاسة البرلمان الإيراني محمد دهقان يقول إن عدم الثقة في الأميركيين ونواياهم الخفية واضحة للعيان.

مما تقدم يتضح إذن أن المخيلة الإيرانية تستحضر هذا الخداع قبل وخلال وحتى بعد عقد أي اتفاق أو الإعلان عن أي مقاربات مع الجانب الأميركي. ولكن لا يعني هذا الأمر أنه لم تلُح في الأفق تفاهمات بين الجانبين في عدد من الجوانب، فقضية إيران كونترا والتعاون الأميركي - الإيراني في أفغانستان والعراق تعطي دلالات على مقدرة الشخصية الإيرانية على التغاضي عن تلك المخيلة في الوضع الذي من شأنه أن يحقق مكاسب ومصالح لها بما يحفظ النظام.

ويأتي الاتفاق الذي أبرم بين كل من إيران و5+1 فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي ليعيد تلك المخيلة وما تختزنه إلى الواجهة من جديد؛ فخلال تلك المفاوضات التي تمخض عنها ذلك الاتفاق أكد المرشد دعمه للفريق المفاوض رغم عدم تفاؤله، ويأتي بعده الرئيس الإيراني حسن روحاني، مشيرا إلى أن الحكومة غير متفائلة بالغربيين والمفاوضات الجارية.

تستمر المخيلة الإيرانية المتشككة والمتخوفة من الخداع الأميركي حتى بعد توقيع الاتفاق بين إيران و5+1، ويأتي فرض عقوبات أميركية جديدة على عدد من الشركات والأفراد ليؤكد ما كانت تذهب له هذه المخيلة، الأمر الذي دفع بالنظام الإيراني إلى سحب الفريق المفاوض أثناء أول لقاء يجمعه مع 5+1 وممثلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد ذلك الاتفاق.

تعود من جديد تلك التصريحات التي تؤكد الخداع الأميركي وعدم الثقة، لتصب جام غضبها عليه. يقول في ذلك خطيب جمعة طهران المؤقت آية الله موحدي كرماني: «حسن النوايا يعني نسيان معاناة الشعب الإيراني طيلة التاريخ.. يجب على الوفد الإيراني المفاوض ألا ينخدع بتبسم الطرف المقابل». كما اعتبر سفير ومندوب إيران الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة محمد خزاعي، أن هذه الخطوة تعزز الشكوك حول صدق النوايا الأميركية. علاء الدين بروجردي رئيس لجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني يرى أن أميركا من خلال انتهاكها اتفاق جنيف، برهنت على أنها بلد غير جدير بالثقة.

إذن جميع المؤشرات تصب في أن المخيلة الإيرانية كانت محقة في هذا الشأن، وأن الانسحاب من هذا الاتفاق سيكون الخيار الوحيد للنظام الإيراني.

تأتي التصريحات اللاحقة لتغاير هذا الخيار، وتخفف من وطأة العقوبات الجديدة التي فرضت على إيران.

وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رأى أن المفاوضات خرجت عن مسارها، ولكنها لم تمت. وأشار إلى أن إيران ستستمر في المفاوضات وسترد على القرار الأميركي الأخير بالطريقة والوقت المناسبين. رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني يرى أن هذا الاتفاق محطة توقف مؤقت حتى الوصول إلى الاتفاق النهائي. ولذا يتوجب التصرف بذكاء وفطنة لتحقيق مطالب الشعب في المحافظة على التكنولوجيا النووية ورفع العقوبات نهائيا.

هي العقوبات إذن وتأثيرها الكبير على الاقتصاد الإيراني التي تدفع بدورها إلى غض الطرف مؤقتا عن ذلك الخداع وأثره على المخيلة الإيرانية.

إن التراجع عن هذا الاتفاق يعني فرض مزيد من العقوبات على إيران، ولا سيما مسودة قرار الكونغرس تخفيض صادرات إيران من النفط إلى أقل من 500 ألف برميل في اليوم، وهو أمر لا شك أنه يشكل معضلة حقيقية للنظام الإيراني.

عودة الفريق الإيراني إلى المفاوضات من جديد وذلك بعد لقاء مساعد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي كاثرين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، يوم الثلاثاء الماضي في بروكسل، يؤكد رغبة النظام الإيراني في الاستمرار في هذا الاتفاق الذي، لا شك، ستواجهه الكثير من العقبات، التي ستكون محط ترحيب لأولئك المتشددين من الطرفين الذين يسعون كما يرى هاشمي رفسنجاني إلى القضاء على ذلك الاتفاق.

إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما استخدامه الفيتو ضد أي مشروع قرار لفرض عقوبات جديدة يعتبر مؤشرا إيجابيا نحو المضي قدما في تنفيذ خطة ذلك الاتفاق. ولكن العقبات ستظل حاضرة، ورغبة حكومة روحاني في تجاوزها ستواجه بانتقادات لاذعة من المناهضين للاتفاق من داخل إيران، ويبقى دعم المرشد ومن ورائه ويلات العقوبات الاقتصادية، دافعا لأن تتكيف تلك المخيلة مع ذلك الخداع لعلها تصل إلى مرادها.