ما أجدرها من كلمات

TT

لكل امرئ كلمات يعتز بها. وما يلي بعض هذه الكلمات التي خلدت في ذاكرتي.

من أشرس معارك الحرب العظمى معركة تروبي التي قاتل فيها الإنجليز ببسالة عجيبة دفاعا عن المدينة البلجيكية. جرى القتال الرهيب بالسلاح الأبيض في الخنادق الغارقة بالدماء والأوحال. سلط الألمان عليها حمم مدافعهم وحولوها إلى كومة من الخرائب. لكنهم لم يستطيعوا كسر عزيمة الدفاع عنها، بل على العكس انكسرت عزيمتهم هم فرفض الجند إطاعة الأوامر بالهجوم، بما أدى إلى استسلام ألمانيا. عرض تشرتشل على عمدتها بعد الحرب شراء المدينة المخربة لتبقى كما قال، نصبا خالدا لبسالة الإنجليز في القتال. بيد أن العمدة اعتذر: «نحن لا نبيع وطننا! ولكننا سنعيد بناءها كما كانت تماما لتكون شاهدا على عزيمة البلجيك في بناء وطنهم».

وهو ما كان. زرت المدينة التي أعيد بناؤها بالضبط كما كانت. ولكنهم أضافوا إليها قوس نصر شامخة تحمل أسماء كل من قتلوا دفاعا عنها. ومنذ نهاية تلك الحرب يخرج فصيل من الجيش البلجيكي كل مساء ويقف تحت القوس، ينكسون بنادقهم وأعلامهم بينما يدوي بواقو العسكر بعزف سلام الواجب الأخير (الموت من أجل الوطن).

وقبل ذلك بكثير، شاركت امرأة فرنسية، المدام رولان، في نضالات الثورة الفرنسية من أجل المساواة والتحرر وحقوق المرأة. في إطار شعار الحرية والإخاء والمساواة. ولكن الثورة التي أفضت إلى عهد الإرهاب تحت إمرة روبسبير اعتقلتها بتهمة ملفقة، وحكموا عليها بالإعدام. ساقوها إلى المقصلة لقطع رأسها. ولكن الجند تركوا لها الفرصة لتقول كلماتها الخالدة، وهي ترتقي سلم المقصلة، نظرت وقالت: «إيه أيتها الحرية! كم من الجرائم ترتكب باسمك!».

من الطريف أن نلاحظ الفيض من الكلمات التي نطق بها أصحابها في طريقهم إلى المشنقة. كثيرا ما يوحي الموت للبشر بأحسن ما نطقوا به في حياتهم. علقت بأذهان العراقيين كلمات سعيد قزاز، وزير الداخلية الكردي في عهد نوري السعيد. أحيل إلى محكمة الشعب، محكمة المهداوي، بتهمة الخيانة. كان الغوغاء قد سيطروا على جو المحاكمة وراحوا يهتفون ويصرخون ويهددون بالحبال. أصدر المهداوي حكم الإعدام عليه، فقال كلمته الشهيرة: «عندما سأكون فوق المشنقة سأنظر لأرى تحت قدمي هذه الرؤوس التي لا تستحق الحياة».

وردت كلمات خالدة من تراث الثورة الفرنسية. كانت منها كلمات ميرابو، الخطيب الفرنسي، عندما كان جالسا في الجمعية الوطنية وجاء رسول السلطة ليأمر النواب بالانصراف وفض الجلسة. فأجابه ميرابو: «قل لسيدك. نحن هنا بأمر الشعب. ولن نبرح هذا المكان إلا على أسنة الحراب».

وأصبحت كلماته تتردد عل الألسن في مناسبات جادة وهازلة. يردد الإنجليز دوما كلمات تشرتشل عن الطيارين الشباب الذين دحروا سلاح الجو الألماني بما حسم الحرب لصالح الحلفاء فقال: «لم يحدث قط في تاريخ الإنسان أن حقق هذا العدد القليل مثل هذا الإنجاز الكبير لهذا الجمع الغفير».

تناول أحد الظرفاء هذه الكلمات مؤخرا فاقتبسها لتوني بلير: «لم يحدث في تاريخ البشرية أن كسب فرد واحد مثل هذه المال الكبير من مقتل هذا العدد الكبير!».