«احتلال».. بترخيص رسمي

TT

بالنسبة لكثرة من اللبنانيين لم يأتِ خطاب السيد حسن نصر الله الأخير في تأبين حسّان اللقيس، أحد قياديي حزب الله الميدانيين، بجديد.

صحيح النبرة كانت عالية، والتهديد مبطنا، والابتسامة الساخرة تورية لواقع «إما تفعلون ما نأمر به أو تتحملون مسؤولية تمردكم».. لكن المتابع اللبناني العاقل ما كان يتوقع من أمين عام الحزب غير هذا. فهوية الحزب وولاءاته معروفة، وكذلك بات معروفا دوره في المنطقة. ومن ثم عندما يصر السيد نصر الله على تشكيل حكومة «وحدة وطنية جامعة لا تستثني أحدا» يغدو من الحكمة فهم هذا المسمى بدقّة في خضم المواجهة التي فتحها مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان.

الحزب ما شاور ولا يشاور أي شريك، لأنه يسير وفق إرشادات «الولي الفقيه» لا الدستور اللبناني. ثم إنه انقلب من دون رفّة جفن على «اتفاق الدوحة» 2008، الذي ضبط آليات «حكومة الوحدة الوطنية» لدى التفاهم على انتخاب رئيس الجمهورية. ثم، مع تورطه العلني بالقتال في سوريا، تجاهل تماما «إعلان بعبدا» 2012 الساعي إلى ترجمة مبدأ «النأي بالنفس» عن النيران السورية.

مع احتكار السلاح أولا، والوطنية ثانيا، والحق بتخوين هذا وتكفير ذاك ثالثا، يريد حزب الله فعليا من الأفرقاء السياسيين اللبنانيين تفويضا «رسميا» مطلقا لكي يمارس سياساته اللبنانية والإقليمية على هواه.. بلا مساءلة أو محاسبة من مؤسسات ما تبقّى من الدولة اللبنانية. هذا هو الهدف الأول من الإصرار على حكومة «سياسية» تضم أطرافا «سياسيين»، وتهديد رئيس الجمهورية بالويل والثبور إذا اختار حكومة «أمر واقع» غير سياسية. الحزب يأمر القوى اللبنانية، تحت تهديد السلاح، بتغطية كل سياساته التي هي في الواقع جزء من استراتيجية «المشروع الإيراني» القائم على جمع أوراق تفاوضية خدمت حتى الآن جيدا خطوات التطبيع مع واشنطن، واستطرادا، إسرائيل.

حزب الله اليوم، على الرغم مع تصعيده الكلامي ضد إسرائيل، يقتل على أرض سوريا سوريين ومسلمين - بتهمة التكفير - بعيدا جدا عن الحدود مع إسرائيل، وهذه حقيقة يعرفها جيدا الجانبان الإسرائيلي والإيراني. وواضح الآن أن ثمة تفاهما ضمنيا على هذا الصعيد، خير ما عبّر عنه الكلام الإسرائيلي عن تفضيل تل أبيب بقاء بشار الأسد في السلطة على سيطرة الأصوليين على سوريا. ولعل هذا يعني أن إسرائيل وإيران - ممثلة بحزب الله وقوات الأسد - تخوضان معا معركة واحد ضد عدو مشترك.

ثم هناك هدف ثان للحزب يستند إلى الأول، وهو أنه - بعد الموافقة الاضطرارية على حكومة «سياسية» - سيفرض على الحكومة العتيدة تمثيل القوى «بأحجامها السياسية». وهذا مصطلح يقصد منه الحزب كتل «الحلفاء» والمحاسيب والأتباع والأدوات الذين حملتهم إلى البرلمان «رافعة» الحزب الانتخابية بزخم أصواته المكفولة بسطوة السلاح. ومعظم هؤلاء شراذم صغيرة لا يُعتد بها لولا رعاية حزب الله المالية والتنظيمية والأمنية. والمغزى أن موقف حزب الله من فكرة «الوحدة الوطنية» لا يقوم على روح التوافق الوطني.. بل على اختراق الطوائف اللبنانية واصطناع قيادات وتكتلات مزيفة عميلة بداخلها، تدين له بالولاء لأنه ولي نعمتها وعلّة وجودها.

لقد مهد الحزب لمعركته الحالية وفق الأسلوب الذي بات مألوفا، ألا وهو إطلاق حملة تهديد وتهويل عبر الأتباع والأدوات الصغار، ثم يدخل الحزب على الخط، بعدما يكون قد أوصل الرسالة إلى من يهمه الأمر. وعموما، تأتي الرسالة الرئيسة من الأمين العام نفسه، ثم يوضحها بلهجة أكثر استفزازا فريق الصف الثاني من ملالي الحزب ونوابه. وحقا، خلال الأيام القليلة الفائتة، قبل أن تنتهي ترددات خطاب نصر الله التهديدي، اتهم أحد ملالي الحزب قوى 14 آذار بأنها «خيمة للتكفيريين» في لبنان، وخشية أن لا يتنبه اللبنانيون لأهمية هذا الكلام.. قال أحد نواب الحزب الفُصَحاء إنه «إذا انتصر التكفيريون في سوريا، فلا يمكن أن يبقى لبنان».

لبنان إذن في خطر داهم. فهو بلد محتل إذا انتصر حزب الله و«المشروع الإيراني» الذي يمثله مع بشار الأسد في لبنان وسوريا، وهو محكوم بالزوال - كما تفضّل نائب الحزب المشار إليه- إذا انتصر «التكفيريون».

لا فرصة للنجاة إذن؟

أبدا. بعض اللبنانيين يعتقدون أن هناك بوابات أمل ما زال بالإمكان طرقها. الثقل المسيحي مثلا.

لبنان أصلا أوجدته القوى الكبرى بحدوده الحالية عام 1920 تحت ضغط فرنسي لكي يكون وطنا دائما يطمئن المسيحيون فيه وإليه. ثم غدا المسيحيون وفق ثقافتهم السياسية.. يعتبرون أنفسهم مؤتمَنين عليه. بل لقد بالغ بعضهم في ادعاء محبته خلال فترات من عمر لبنان المستقل إلى درجة تنفير قطاع واسع من المسلمين منه. إذ دفع حرص المسيحيين المبالغ فيه على الربط بين «الكيان» و«النظام» الذي تمتعوا فيه بحصة كبيرة ونافذة ذلك القطاع الواسع من المسلمين إلى التشكيك بجدوى «الكيان» طالما ظل رهينة لـ«نظام» يفتقر إلى المساواة والتكافؤ. وبالنتيجة، تمدد ولاء المسلمين أبعد من حدود الوطن.. وأضحى الصدام حتميا.

حافظ الأسد، ومن خلفِه رعاته الإقليميون والدوليون، تلاعب بفعالية بالورقة الفلسطينية إلى أن أجهز عليها في لبنان 1976 - 1977. وفي لبنان خدع المسيحيون أنفسهم بتصورهم أن دخول القوات السورية بلدهم كان فقط بهدف إنقاذهم من الفلسطينيين واليسار الدولي (وفق مصطلح تلك الفترة)، ليكتشفوا لاحقا أن لدى نظام دمشق مشروع هيمنة أكبر.. اضطروا للانتفاض عليه فخسروا.. وحكم الأسد لبنان 30 سنة، فصفّى من صفّى ونفى من نفى واعتقل من اعتقل.

بعض المسيحيين المتطرفين نسوا أو تناسَوا تلك الحقبة. وهم يتحالفون اليوم مع الأسد الابن وحزب الله ضد «التكفيريين»، تماما مثلما خُدِعوا في الماضي وحالفوا الأسد الأب ضد الفلسطينيين. وبناء عليه، ما لم يَعُد المسيحيون - وعلى رأسهم القيادة الدينية المارونية - إلى رشدهم.. ووقف انتحارهم السياسي، ستكون مهمة إنقاذ لبنان صعبة. وقد تكون المفارقة بأن مَن سينقذه إذا قيّض له الإنقاذ.. الشارع المسلم السنّي!