وشهد شاهد...

TT

أكذب لو قلت إنني لا أنظر إلى صورتي في المرآة فتصدر مني تنهيدة ويسبق كفي عقلي المفكر فأجذب إلى أعلى بشرة الوجه لتختفي تجاعيد خلفها الزمن وفقدان الوزن. وسرعان ما يسترد العقل الواعي قدرته على وزن الأمور بميزان الواقع. فلا تجعيدة هنا تعوقني، ولا أخرى هناك تفسد قدرتي على العمل أو تفقدني شهيتي للطعام ولا تبطل مفعول حب أسرتي وولاء الأصدقاء. وهل يمكن أن يدعي شخص أن الولد لا يحب أمه إلا إذا كانت شابة وجميلة ذات وجه لم تسطُ عليه التجاعيد؟

ينتهي مشهد المرآة بصوت الضمير يقول: احمدي الله على نعمة الحياة، بالتجاعيد أو من دونها.

منذ أيام صادفني خبر مصور في إحدى الصحف اليومية عن نجمة هوليوودية هي كاثلين تيرنر التي بلغت ذروة الشهرة في ثمانينات القرن الماضي ويتضمن تاريخها السينمائي أكثر من أربعين فيلما ناجحا وعددا كبيرا من أدوار مسرحية. وكان عنوان الخبر الذي اشتمل على صورة لها وقد بانت عليها أمارات الكبر: كاثلين تقول لمن يعلقون على مظهرها الآن: عيشوا في الواقع. أنا ممثلة لا عارضة أزياء وسن الستين لا تمنعني إجادة عملي الفني.

واشتمل الخبر على أن كاثلين تيرنر تعرضت للإصابة بمرض الالتهاب الروماتيزمي للمفاصل وأن العلاج بالأدوية المسكنة والمضادة للالتهابات تسبب في زيادة وزنها كثيرا وأعقبته فترة عسيرة من المتاعب العائلية. ثم شفيت وعادت إلى العمل وسارع زملاؤها بنصحها بأن تجرب إصلاح ما أفسده المرض والزمن بالتدخل الجراحي؛ فقد أصبحت جراحات التجميل وشد الوجه وتكبير الصدر ووشم الحواجب في هوليوود أكثر من الهم على القلب، ولكنها رفضت أي تدخل جراحي لأنها تصر على أن تعامل كامرأة عاملة ويجب أن يقيَّم عملها على مستوى الأداء لا الجمال والشباب.

حين تختار امرأة الحل الجراحي لا تفكر إلا في اللحظة الزمنية التي تتخذ فيها القرار وكأن الزمن سوف يتوقف عند حصولها على وجه أملس لا أثر للتجاعيد فيه. لا تفكر فيما يمكن أن يحدث بعد ستة أشهر أو عام أو خمسة حين ترجع التجاعيد لتعتلي عرش الوجه من جديد. لحظة اتخاذ مثل ذلك القرار لا تختلف عن قرار المدمن بأن يتعاطى جرعة جديدة من المخدر وهو يعلم أنه يتعاطى سماً سوف يودي به آجلا أو عاجلا إلى الفقر أو الجنون أو الموت، ومع ذلك يستسلم لإغراء المتعة الفورية المؤقتة.

لو كان الحل بيد الجراح لما تبدل وجه جميلة الجميلات إليزابيث تايلور من السماحة إلى الجمود، ومن الجمود إلى القسوة، ومن القسوة إلى قبح لا يختلف عليه اثنان. ولا شك أن ثروة إليزابيث تايلور كانت كافية للاستعانة بأشهر الجراحين في العالم. وفي النهاية لم تشفع لها المجوهرات ولا الدولارات؛ فلا شيء يمكن أن يوقف زحف السنين.

وفي السياق نفسه أذكر ممثلة إنجليزية اسمها جودي دنش شاهدتها على المسرح في بداية عهدي بالاغتراب. ولم يدهشني أداؤها المسرحي الممتاز بقدر ما أدهشني كم كانت جميلة آنذاك. منذ أسبوع شاهدت فيلما سينمائيا قامت هذه الممثلة التي أنعمت عليها الملكة بلقب نبيل اعترافا بموهبتها. أثناء المشاهدة لم أنتبه لما فعلته السنون بالوجه الجميل. فقد أصبح وجها مغضنا بعد نضارة الأمس. انتبهت فقط لقدرة الوجه والعينين على التعبير عن انفعالات معقدة بلا احتياج للكلام. ولن يدهشني أن يرشح الفيلم لجائزة الأوسكار هذا العام بفضل موهبة لم تذبلها شيخوخة ولم يبددها حصاد التجاعيد ولم يلمسها مبضع جراح.