الحكمة ضالة المؤمن.. في باريس!

TT

بينما كنت أتجول في ميدان الكونكورد الشهير في باريس، قبل أيام، استوقفتني «مسلة كليوباترا» الفرعونية التي يربو عمرها على ثلاثة آلاف سنة. وقد أهداها والي مصر العثماني إلى فرنسا عرفانا بدور الأخيرة في المساهمة في اكتشاف أسرار الحضارة الفرعونية. وقيل إن من بينها اكتشاف العالم الفرنسي جون فرنسوا شامبليون لآلية فك رموز نظام الكتابة الهيروغليفية. وذلك بعد العثور على حجر رشيد كتبت عليه ثلاثة نصوص مترجمة منها الهيروغليفية. وقد ساعدت جهود العالم الفرنسي على اكتشاف أسرار عظمة الحضارة الفرعونية التي ظلت غامضة لآلاف السنين حتى اكتشاف نظام الكتابة لدى بناة أشهر عجائب الدنيا السبع.

ما يهمني في الموضوع ليس عرفان مصر بالجميل ولكن أهمية فكرة الاستعانة بالآخرين أيا كانت أديانهم وطوائفهم. ولو أننا مثلا حاربنا الغربيين وعلومهم لما وصلت إلينا جامعة معتبرة ولا مستشفى ولا مصنع ولا سيارة ولا طيارة ولا كتاب. ولو لم نقبل بمحاولة الغربيين التنقيب عن النفط في أعماقنا لظللنا نجر وراءنا لعشرات السنين قوافل الإبل والدواب بحجة رفضنا أن يمس «الخواجات» شبرا من أراضينا. والعكس صحيح لو أن الغربيين ألقوا بعلوم المسلمين ومظاهر حضارتهم في عرض البحر لما سبقونا بأشواط نحو التقدم والمدنية. إن فكرة الإصرار على إعادة اكتشاف العجلة تحاشيا للاستعانة بالآخرين هي إهدار للوقت والجهد. وهناك بالفعل من يرفض أن يقبل اقتراحا وجيها سمعه لمجرد أنه جاء من خصم سياسي أو زميل أو صديق لا يبادله وشائج المودة. وهذا يعود إلى أننا لا نفرق بين الحب والمنفعة، فلكي أنتفع من شخص لا أحتاج إلى أن أبادله المحبة، ناهيك بالمودة وهي ذروة الحب. ولو تأملنا أحد أشهر المشاريع الاستراتيجية في المنطقة التي استعانت بالعقول الغربية لفترة وجيزة ثم بنت مؤسسة يقودها العنصر الوطني باقتدار وفق معايير عالمية، فإنني أتذكر شركة «أرامكو» العملاقة إحدى كبرى الشركات النفطية في العالم، و«سابك السعودية»، أكبر شركة صناعية غير بترولية في منطقة الشرق الأوسط. كما أن اليابان الشرقية تبنت الثقافة الغربية رغم أنها أكثر من اكتوت بناره. فقد أرسلت في عصر الميجي «النهضوي» (1868م) طلائع كوادرها إلى العالم الغربي لدراسة نظم التعليم لديهم وعادت بمفاهيم منها اللامركزية ومجالس التعليم المحلية وطورت تعليمها على مراحل حتى صارت له هوية خاصة به.

وفي أوائل الستينات كانت الكويت الصغيرة تستجلب أفضل العقول في كل مجالات القانون والبلديات والتعليم والمسرح والثقافة والفنون. فبنت دولة متقدمة نسبيا مقارنة بشقيقاتها. والآن تحذو دبي بتفوق الفكرة نفسها بالاستعانة بأفضل الناس من كل مكان.

وعندما نعود إلى عصر الصحابة نجدهم أيضا استخدموا قاذفة الصخور الحربية العملاقة (المنجنيق) واستخدموا الدواوين الغريبة عليهم، وكلها أفكار جلبت من بلاد فارس وغيرها، ولم يمنعهم من تبنيها اختلافهم مع أصحابها.

حينما نتأمل الحضارات الإنسانية وتاريخ المؤسسات التجارية الناجحة نجدها لم تبنَ على أكتاف عرق واحد، بل بانصهار أطياف المبدعين في بوتقة واحدة، فولدت بيئة خصبة للإبداع والتقدم. وما دمنا ننظر إلى المختلفين عنها أو الخواجات بعين التعالي فلن لنتمكن من المضي قدما في مسيرة التقدم الفردي والمؤسسي. لأن من أبجديات التميز قاعدة «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها».

[email protected]