أي استحقاق ينتظر لبنان؟

TT

بين رئيس حكومة «تصريف أعمال» يطالب بتحديد الصلاحيات «التصريفية» لحكومته - إن صح التعبير - ورئيس حكومة «مكلف» ناء بحمل التكليف قبل التأليف..

وبين وزراء حكومة واحدة يتبادلون تهم الفساد وهي، على أهميتها، آخر هموم اللبنانيين في ظرفهم الراهن..

وبين مجلس نيابي يواجه «استحقاقا» انتخابيا تهرّب نوابه منه بتمديد عمر مجلسهم عوض تقريب أجله..

وبين «استحقاق» رئاسي قريب اختلف أبناء الطائفة «المستحقة» له في تحديد مواصفات الشخصية «القوية» المرشحة لكرسيه ففصلوها على مقاس الموجود لا المطلوب..

يستقبل اللبنانيون عاما جديدا «مفخخا» بما يسمونه بـ«الاستحقاقات» الدستورية المأزومة، إن لم يكن الملغومة، والقابلة للتفجر بمجرد احتكاكها بأي حدث داخلي أو إقليمي لا يرضي هذا الفريق السياسي أو ذاك، أو حتى بأي اعتداء إرهابي «على الهوية».

عشية هذه الاستحقاقات الداهمة لم يعد مستبعدا أن يحصد اللبنانيون، عام 2014، ما لا يستحقونه من أزمات سياسية وعثرات أمنية ونكسات اقتصادية توحي سلتها بأن لبنان ورث، في القرن الحادي والعشرين، سمعة الإمبراطورية العثمانية في أواخر عزها ليصبح رجل المنطقة «المريض».

ولكن، رغم كل ما يضفيه السياسيون من أبعاد سياسية، وأحيانا آيديولوجية، على صراعاتهم الداخلية بمظلات إقليمية، فإنه يتضح يوما إثر يوم أن أزمتهم الراهنة لا تعود إلى جذور سياسية بقدر ما تعود إلى معطيات ديموغرافية - مذهبية، علما بأنه من الصعوبة بمكان فصل العاملين بعضهما عن بعض في إطار الواقع اللبناني الطائفي.

ولأن «التقية» السياسية كانت، ولا تزال، تغلف العمل السياسي في لبنان وتسوقه، يظل شعار المحافظة على التوازنات السياسية - المذهبية المعمول بها منذ الاستقلال، الغطاء الملائم للطابع المبطن للعمل الحزبي في لبنان. لكن ارتفاع نبرة التهديد في خطاب حزب الله السياسي، عشية الاستحقاقات الدستورية المقبلة بالجملة على اللبنانيين، يوحي بأن الحزب يشن إعلاميا حملة تمهيدا للإعلان عن «مفاجأة» جديدة بقدر ما هي متوقعة: الخروج على ما يصفونه «بالميثاق الوطني»، أو على الأقل روحية الميثاق الوطني.

واللافت أن قادة حزب الله وقاعدته المذهبية لا يخفيان ما يعتبرانه «ظلما ديموغرافيا» لحق بهم في ظل الواقع السياسي المنبثق عن اتفاق الطائف عام 1989 (الذي عزز صلاحيات «الحكومة»، ورئيسها عمليا، على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية)، كما لا يخفون شعورهم بأن مرسوم التجنيس الشهير الذي صدر عام 1994 (و«لبنن» أكثرية عددية من طائفة معينة) قلب الموازين الديموغرافية - المذهبية لغير صالحهم في انتخابات عام 2009.. وإن كانوا لم يقصروا، لاحقا، في تعديل هذا الخلل العددي.

وعليه، وفي سعيه الحثيث والهجومي للاستئثار بالمزيد من النفوذ الرسمي في لبنان، يبدو تلويح حزب الله بسلاحه الديموغرافي بأهمية التهديد بسلاحه العسكري في تحقيق أهدافه. إلا أن التزام الحزب الوثيق بمفهوم ولاية الفقيه وتورطه العسكري في النزاع السوري الداخلي أخرج سعيه «الديموغرافي» عن إطاره اللبناني المحلي، وبرر اتهام الكثيرين له بأنه هدف إقليمي بالدرجة الأولى. وفي هذا السياق، عمل التشويه المذهبي للأهداف المبدئية للثورة السورية، على جبهتي المواجهة معا، على تعزيز مصداقية هذا الاتهام.

من هنا تأتي خطورة مقاربة حزب الله للاستحقاقات السياسية المنتظرة في لبنان، فتهديداته المتكررة للآخرين تطلق في مرحلة تعيش فيها المنطقة برمتها أجواء احتقان سني - شيعي لا سابق لها، وفي وقت تشهد فيه صراعات نفوذ تتوسل الولاءات المذهبية في مواجهاتها.

وسط هذه الأجواء السلبية، يصح استنتاج أن تهديدات حزب الله، العلنية والخفية، لعدد من القيادات الرسمية والحزبية تسهم في القضاء على آخر فسحة متبقية للحريات في دولة تحتضن ثمانية عشر مذهبا دينيا وأكثر من عشرين حزبا سياسيا.. هذا إذا لم يكن ذلك أحد مقاصدها المبطنة.