ابن عايلة

TT

رغم كل تعلقي وتعاطفي مع المحرومين والمستضعفين، وإيماني بحقوقهم وقدراتهم، فإنني كثيرا ما ألاحظ أنه قلما يقوم أحد منهم بتبني الحركات الإصلاحية والتحررية التي تعنى بحقوقهم وتمس حياتهم، وإنما تبناها وبشر بها أبناء الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية، النخبة من أبناء الذوات.

خطر لي ذلك مرة أخرى وأنا أتابع كل هذه الضجة في تشييع جثمان مانديلا. فرغم أنه كان قطبا من أقطاب الحزب الشيوعي في بلاده، فإنه في الواقع انحدر من أسرة أرستقراطية، أسرة شيوخ من شيوخ الزولو.

كذا هو الأمر في الكثيرين من أمثاله، باراك أوباما، المهاتما غاندي، البانديت نهرو، الكونت تولستوي، فردريك إنغلز، برتراند رسل، الدوق لافاييت، والباشا الأحمر في مصر، الجادرجي والشبيبي وبارزاني في العراق، وسواهم. من قام بالثورة العربية غير الأمراء والأشراف؟ ومن كتب العهد الأعظم، أول وثيقة على خط الديمقراطية البريطانية، غير اللوردات؟ فحيثما تقرأ عن حركة إصلاحية أو ثورية تجد أن روادها كانوا من هذه الفئة. كذا كان الأمر في انبثاق الإسلام وانتشاره على أيدي أبناء قريش.

إنها ظاهرة تلفت النظر وتستدعي التفكير والتأمل. لم يقوم الغني والمترف وليس الفقير المعدم بتبني حقوق المعدمين؟ خطرت لي عدة أسباب لهذه الظاهرة الغريبة. أولا أن أبناء النخبة متعلمون ومثقفون تعلموا من ثقافتهم وإلمامهم بالتاريخ أن الظلم إذا دام دمر. فمن مصلحتهم رفع الظلم عن المظلومين. تعلموا أن العدالة والحرية وحقوق الإنسان فضائل وحسنات واجبة. ليس من باب العبث أن تعلمنا على وصف الواحد منهم بأنه «ابن عايلة»، صاحب حسب ونسب. نفترض فيه أن يكون قد تربى على السلوك الطيب ومراعاة الآخرين واحترام الأصول والقانون.

وهذا يجعل العامة تنظر لابن العايلة نظرة إيجابية، تحترمه وتأتمنه وتماشي ما يقوله. وهذا ما جعل الهنود مثلا يتبعون خطى غاندي، فلم يكن مجرد ابن عايلة فقط، بل كان إماما من أئمة دينهم «مهاتما». أشك لو أنه كان شابا فقيرا أو ابن فلاح أن ينجح بلف الجمهور حوله أو يجد من يصغي لكلامه.

الثروة والحسب والنسب مسؤولية تفترض حسن السلوك في صاحبها والتعالي عن الرذائل والانحطاط والكذب. ربما نجد أن الكثير من المصائب والفضائح والمظالم والمهازل والمذابح التي شهدناها وعانينا منها في عالمنا العربي تعود لأصابع الغوغاء من زعانف القوم ممن استطاعوا بمكرهم وغشهم وبغبائنا وسذاجتنا أن يتملكوا نصاب الأمور علينا واستسلامنا إليهم. تكفيني الإشارة هنا لصدام حسين وأمثاله من الكثيرين.

وكما لاحظت ذلك في ديارنا، لاحظت أمثلة مشابهة في الغرب. فابن من هتلر؟ وابن من ستالين؟ ومعظم ما نسمعه من فضائح الفساد حتى في هذا البلد، بريطانيا، ارتكبها زعانف القوم. لم أسمع حتى الآن أن وقع في مثلها «ابن عايلة».

أقول كل ذلك وأستغفر الله عما كتبته!