تحصين التعليم

TT

من المشاهدات الحديثة التي يلحظها المراقبون أن التطرف الفكري المؤدي لممارسة العنف ينشأ في أغلب الأحوال داخل المدارس وحرم الجامعات، والتفسير الأقرب هو كون هذه الأماكن نقاط تجمع لأهم وأخطر فئة في المجتمع وهم الشباب. إنما دون هذا التفسير تفسير آخر بأن مؤسسات التعليم أصلا حاضنة للأفكار المتطرفة ومساحة قد تقبل إنبات الآيديولوجيا بصرف النظر عن هويتها.

لا أبالغ إن قلت بأن المدارس والجامعات أشد خطرا من مواقع تشغيل المفاعلات النووية، وإن كان الخوف من تأثير الإشعاع النووي هو تسببه في تشوهات خلقية تتوارث عبر جيل أو جيلين، فإن الآيديولوجيا أكثر ثباتا في التوارث، وأوسع انتشارا في دائرة تأثيرها.

يمكن ببساطة ملاحظة ما يجري في مصر كمثال حي. فمنذ شهور تتركز أبرز أعمال العنف في ساحات الجامعات التي تعتبر الملتقيات الشبابية الكبرى، وما يسترعي الانتباه كون الخائضين في هذا العنف ليسوا فقط طلابا، بل أساتذة وإداريون يحرضون أو يسمحون بالتجاوزات. هذا يعني أن الجامعات ليس فقط ساحة تجمع شبابية، بل أيضا حاضنة وراعية وداعمة، والظهر الصلب للأفكار المتطرفة. من المعروف أن الجامعات والمراكز الطلابية كانت دائما نقاط جذب لاستعراض الاتجاهات الفكرية وتشكيل الأحلاف والأحزاب السياسية في كثير من البلدان العربية، ولكن أن تتحول الفكرة إلى ممارسة للعنف، أو تجاوزها إلى الاعتداء على الناس أو المال العام، فهذا خطوة خارج الخط الأحمر.

الحكومة المصرية لديها صلاحية للقبض والضبط لحفظ الحالة الأمنية، وهذا الدور الطبيعي لرجال الأمن، إنما المهمة الأصعب هي اجتثاث الآيديولوجيا المتطرفة من مؤسسات التعليم، هذا هو التحدي الكبير. المهمة أصعب كون الأفكار المتطرفة لا تعلن عن نفسها إلا تحت ظروف معينة كالتي تحصل اليوم في مصر حيث المواجهات مصيرية والكيانات تخوض حرب وجود. أما في معظم الأحوال فهي كامنة مستكينة، تتحدث في القاعات الدراسية ومراكز الأنشطة الطلابية بلغة الخطابة الرصينة وسحر البيان التي تدغدغ العواطف، لتشكل لنفسها قاعدة شعبية عريضة قابلة للاستغلال والاستخدام وقت الحاجة.

لا يمكن فهم كيف لمسؤول في قطاع تعليمي أو أستاذ في مدرسة أو جامعة أن يقوم بالتحريض على العنف أو تأليب الطلبة واستخدامهم لتنفيذ أجندته الفكرية، إلا إن كانت الرقابة على التعليم ضعيفة أو منعدمة، بحيث نشأت ونمت عناصر راديكالية القيم خلال أزمنة طويلة في غفلة من أعين المتابعين للعملية التعليمية أو لا مبالاتهم.

عبثا نحاول اليوم العمل على تطوير التعليم، هذه رفاهية. التطوير بمعناه الفني أو الصفي يعد مرحلة متقدمة، والقفز على مراحل التكوين فشل في حد ذاته. التعليم في العالم العربي موبوء بالآيديولوجيا، وعلاجه من هذا الداء يتطلب موقفا رسميا ودعما شعبيا ولو جزئيا. التعليم الجيد لا يتحقق فقط بإنشاء الأبنية، أو كما تسمى «الحضارة الإسمنتية»، وأيضا ليس بتغيير المناهج أو تدريب المدرسين. قد تتطور مضامين المقررات الدراسية، ولكن كيف نعرف أن هذا المضمون هو ما سيوصله المدرس للطالب؟ قد يحصل المدرس على تدريب عال لأداء مهمته، ولكننا قد نكون من غير قصد صقلنا قدرته على توصيل أفكاره الراديكالية. قد نهيئ قاعة دراسية تحوي أفضل تقنيات التعليم، ولكن يقف على منبرها مدرس يبرر استخدام العنف في الشارع أو يحرض على سلوكيات تتعارض مع طبيعة المجتمع.

التعليم يكون جيدا حينما يكون القائمون عليه من إداريين ومدرسين متعافين من الآيديولوجيا، لا يحملون معهم أجندات فكرية خاصة وليست لهم أهداف تتجاوز مهامهم التي تنص عليها الأنظمة. إن تحقق ذلك ربما حينها يكون من المجدي الحديث عن تطوير المراكز الطلابية والمناهج وتأهيل المدرسين والتطلع للمنافسات العالمية.

أولوية القائمين على العملية التعليمية بمختلف مراحلها هي تطهير مؤسسات التعليم من هؤلاء. صحيح أن التطهير عمل شاق ويستنزف وقتا وربما يجلب التناحر والتنازع، ولكن الأمر يستحق لأنها قضية مصير، فبذور التطرف الفكري كانت قد زرعت في المراحل التعليمية الأولى، ثم تضخمت وأعيدت صياغتها مع ارتقاء المرحلة حتى تصل إلى الطالب في المستوى الجامعي.

التعليم هو مستقبل الدولة، هو استقرارها الداخلي وقيمتها الخارجية، ومهما بذلت الحكومة من جهد لتحقيق الأمن بملاحقة ومعاقبة المتطرفين والمعتدين، ومهما صرفت من مليارات للتخطيط لسياسة التعليم وبناء الجدران، فلن يتحقق استقرار المجتمع ولن تتطور الدولة، إلا بمعالجة الخلل الذي يكمن في الهيكل البشري؛ الإداري والتنظيمي للتعليم، وليس في الأدوات والمظاهر.

أيا ما كانت الآيديولوجيا، فستظل مقبولة للنقاش والأخذ والرد، طالما لم تتحول إلى فعل يجرمه القانون، وطالما لم تكن قاعدة لانطلاق التطرف، أما إذا تحولت إلى ذلك فيجب البحث عن منابت المتطرفين؛ من أين جاءت أفكارهم؟ من لقنهم واحتضنهم؟ من دعمهم وصفق لهم؟

[email protected]