مشروعنا الوطني البحريني جامع

TT

قبل سنوات قليلة تلقيت تعقيبا على مقال «الديمقراطية الطائفية» من أحد الأصدقاء ملخصه أن المحاصصة الطائفية قد تكون الحل المرحلي في رحلتنا نحو الديمقراطية. وأذكر وقتها أنني رددت على الصديق أن الآيديولوجيا الطائفية تنهض على الأوهام التي تصبح الدافع وراء المواقف والقرارات التي تحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية، فيضيق مجال العقل معها ويضعف تأثيره، ولذلك لا يمكن معالجة خلل بخلل مثله أو أشنع منه، ومن المؤسف أن ينضم أو ينخرط بعض اليسار الديمقراطي إلى الجوقة الطائفية باستخدام المعجم إياه تحت أي مسمى أو مبرر مهما كان نوعه.

واليوم تعود تلك النغمات المخاتلة التي تتحدث عن حكومة محاصصة طائفية!! وكان الأحرى بها أن تتحدث عن حكومة «كفاءات وطنية مثلا» أو وحدة وطنية وليس محاصصة طائفية، ومن المؤسف أن المتابع لتطور الفكر الطائفي، خصوصا بعد وخلال الأحداث التي شهدتها البحرين، يجد أن هذا «الفكر» يبني أطروحاته ومواقفه على أساس الأوهام، لأنه غير مستعد لمواجهة الحقائق على الأرض، فيعيش في الفقاعة التي تريحه من «وجع الدماغ» وتؤمن له نوعا من الأمان المزيف الذي يقترب في نتائجه من فعل المخدر، وذلك لقصر النظر والسطحية في تشخيص المشكلات السياسية والاجتماعية معا التي جوهرها تعزيز المشاركة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والمواطنة الكاملة «التي يعتبرها البعض قشورا!!!».

ومن هذه الأوهام التي يستند إليها هذا الفكر كما تجلى لنا خلال السنوات القليلة الماضية من خلال أطروحاته، أن تحقيق المساواة بين الطوائف في إطار الدولة هو طريق إلى بناء الديمقراطية المرحلية على الأقل «كما قال صديقنا»، في حين أن اعتماد منطق التوزيع الطائفي للمناصب في كل جوانب الحياة، لا يؤدي إلى تكريس الديمقراطية أو تعزيزها كما قد يتوهم البعض، وكذلك القول بإمكانية تحقيق الديمقراطية في مجتمع تتساوى فيه الطوائف، كما جاء في بعض الخطابات المعارضة أو في فلتات اللسان السياسية المتكررة، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تتحقق إلا في مجتمع يتساوى أفراده أمام القانون، والشرط الضروري لهذه المساواة هو إلغاء الطائفية، بحيث لا يمكن في المجتمع الديمقراطي أن يكون الانتماء الوطني ناقصا، إذا ما نظر إلى الفرد على أساس طائفي، لأن الديمقراطية في جوهرها وحقيقتها مساواة بين أفراد يرتبطون مباشرة بالدولة من دون الحاجة إلى وسيط، وعلى أساس المواطنة الكاملة.

المصيبة الكبرى أن التنظيم الطائفي قد نجح على ما يبدو في جر بعض القوى المحسوبة على اليسار والعلمانية والليبرالية تحت مظلته، استنادا إلى سيطرة المجال الديني الجماعي، كما نجح في جعل كل من يخالف الأفكار والتقاليد السائدة خارجا أو حتى كافرا في نظر القيمين على صيانة الشؤون الطائفية، الذين غالبا ما تكون لديهم مصالح وامتيازات معلومة يبذلون الجهد للحفاظ عليها، حيث يجري ترهيب الفرد الذي يختار طريقه عن فكر ووعي في المجالين السياسي والاجتماعي، ومن المؤسف أن تضطر بعض القوى العلمانية إلى التبرير بحجج طائفية كي تحمي نفسها من تهمة الخروج، ولكي تستعيد موقعا ضمن الجماعة الإيمانية «كأن يحرص اليساري على إظهار نوع من التزمت الديني، لتسهيل عملية الاندراج تحت المظلة الطائفية».

إن النظام المدني الديمقراطي وحده هو الذي يفسح المجال أمام صراع الأفكار والاتجاهات السياسية بشكل سلمي وديمقراطي وحر، يقوم على الحوار الفكري العقلاني، في حين أن الطائفية تضعها في إطار صلب فتقمعها وتمنع نموها وتطورها، وقد كانت الأحداث التي عشنا بعض فصولها المؤسفة بمثابة انفجار لرؤية طائفية، وقفت وراء منع التطور الاجتماعي والسياسي التاريخي الطبيعي، وقمع الأفكار الناشطة في الاتجاه المدني والديمقراطي، وعندما بلغت الاتجاهات والأفكار الطائفية مداها، جاءت النتائج الكارثية التي نعيشها حاليا والتي أسهمت في بناء جدار الفصل الطائفي. ومن الواضح من خلال التحليل العياني للواقع ومعطياته أنه كلما اتسعت الطائفية، صغر الوطن، ولذلك فإن البحث خارج بنية الخطاب الطائفي، يقود بالضرورة إلى أمرين اثنين:

• الأول: الحاجة إلى بناء كتلة تاريخية «سياسية - اجتماعية» تتمثل في جمع القوى الوطنية الحقيقية حول مشروع وطني ديمقراطي جامع، يقوم على الثوابت الجامعة التي حُدّدت في ميثاق العمل الوطني، وكانت وما زالت محل إجماع شعبي، وعلى القضايا الجوهرية للوطن والمواطن لمعالجتها ضمن رؤية جامعة، بحيث تكون فرصة لبناء أكبر ائتلاف للقوى الوطنية المعادية للطائفية ذات المصلحة في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ومدنية الدولة، دولة الحريات والتقدم والمساواة الكاملة بين المواطنين نساء ورجالا، في تناقض تام مع القوى الطائفية الظلامية المعلومة «مهما حاولت التستر والمخاتلة وممارسة التمويه اللغوي والسياسي والإعلامي».

• الثاني: تعزيز بناء عقلانية مضادة للطائفية شكلا ومضمونا، لأن العقلانية تشكل مفتاحا لفهمها كظاهرة سلبية وترسيخ نقيضها في تربة الواقع السياسي والفكري، ومن ثم تطوير فكر مناهض للخطاب الطائفي الزاحف بقوة في السنوات الأخيرة في اللغة وفي السياسة والإعلام، والذي تتسع مساحاته كخطاب مخاتل يعي بالضبط ما يريد، ويعلن عن نفسه بطريقة مواربة، ليقوم باستبدال هيمنة طائفة بهيمنة طائفة أخرى، أو حل المحاصصة المرحلي أو النهائي الذي أشار إليه الصديق.

إن الوطن ظاهرة اجتماعية - تاريخية ترتكز على أسس مادية تؤلف في جملها وبحركتها لحمة التاريخ، وبهذا المعنى، فإنه لا يطيق منافسة الطائفية، لأن في ذلك ضياعه المحقق، لأنها تعمل على نفيه إلى درجة العدم لتشيّد الحروب الطائفية التدميرية العقيمة، التي نسمع يوميا عنها ونراها في الشوارع والبيانات والتصريحات والمحاضرات والمناقشات.. ولكن لا مجال، والحالة هذه، لأي حلول تلفيقية تخترع توازنات وهمية وبدائل ذات مسميات تحاول التغطية على طبيعة الطائفية وجوهرها القبيح، كأن يكون الطائفي إسلاميا أو قوميا أو يساريا لا فرق، فالدعوة على الرغم مما تتستر به من شعارات «ضد طائفية» تكرس واقع الأمر الظلامية والتخلف والحروب اللانهائية، بما يجعل تاريخ الوطن مستمرا في الدوران في حلقة مفرغة.