كلمة هادئة حول قضية صاخبة

TT

الذين عاشوا في واحدة من عواصم أوروبا، ولتكن لندن على سبيل المثال، يعرفون جيدا عواقب خروج مظاهرة في الشارع، احتجاجا على حكم صدر من القضاء على متهمين.. من بين هذه العواقب، مثلا، أن الحكم يتم إلغاؤه، وأن المحاكمة بكاملها تنتقل من المدينة التي خرجت فيها المظاهرة، إلى مدينة غيرها، وأن.. وأن.. إلى آخر ما نفهم منه، أن الاعتراض على أحكام القضاء، أيا كانت، في الشارع، مسألة مرفوضة شكلا ومضمونا، فمثل هذا الاعتراض، له مكان آخر، ليس هو الشارع في كل الأحوال.

نقول هذا الكلام، في إشارة إلى الزوبعة التي أثارها صدور حكم، صباح الأحد قبل الماضي، يعاقب ثلاثة نشطاء مصريين، من بين أعضاء حركة 6 أبريل، لأنهم ارتكبوا جرائم محددة يضع لها القانون عقوبات واضحة. ولا بد من أن نشير هنا، إلى أن حكاية أن يوصف أحد بأنه «ناشط» ولا شيء غيرها، قد شاعت بشكل لافت للنظر، قبل ثورة «25 يناير» 2011، وبعدها، ولا تعرف في الحقيقة، ما إذا كان إطلاق كلمة «ناشط» هذه، على أي شخص، يدل على صفة فيه، أم على وظيفة له، أم على ماذا بالضبط، فهي في حقيقة الأمر، وعندما نتأملها بدقة، تبدو شكلا بلا أي مضمون!

ومع ذلك، فسوف ننتقل من هذا الكلام العام، إلى الخاص منه، والذي يتصل في أساسه، بما جرى، محليا في القاهرة، ودوليا خارجها، بعد الحكم على النشطاء الثلاثة.

فليست هناك منظمة، مما يقال عنها إنها حقوقية، إلا وأبدت اعتراضا علنيا على الحكم، ولم يتوقف الأمر عند حد مثل هذه المنظمات، وإنما تجاوزها إلى الاتحاد الأوروبي، من خلال تصريحات للسيدة آشتون، مسؤولة الشؤون السياسية والأمنية فيه، إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم إلى إنجلترا من خلال وزير الدولة للشؤون الأفريقية في الخارجية البريطانية. وكم تمنى المرء، لو أن أحدا سأل السيدة آشتون، وهي تعلق على الحكم، وتكاد ترفضه، عما سوف يفعله أي بلد أوروبي عضو في الاتحاد الذي تشغل هي وظيفتها فيه، إذا ما خرج مواطنون ثلاثة هناك، أي في هذا البلد، واعتدوا على رجال الشرطة، ثم نظموا مظاهرة تخللتها أعمال عنف، بالمخالفة للقانون الذي يلزم كل من يريد أن يخرج في مظاهرة بأن يحصل على تصريح مسبق؟!

طبعا سوف ترد هي على استحياء، وتقول إن مواطنين كهؤلاء، سوف يخضعون للقانون وما يفرضه، فإذا ما نبهها أحد، إلى أن هذا نفسه، هو ما حدث مع النشطاء الثلاثة، وأنه هو ذاته ما تعترض هي عليه، فسوف لا تجد في الغالب شيئا تقوله، وسوف يكون لسان حالها، وهي لا تعرف كيف تجيب، إن الأمر، إذن، حلال عندهم، وحرام عندنا!

الغريب، أن الوزير البريطاني قال إن بلاده «تؤمن بأهمية السماح بالاحتجاج السلمي في أي مجتمع ديمقراطي» ولم يكلف نفسه، ليسأل، قبل أن يعلق أو يعترض، عما إذا كان ما أقدم عليه النشطاء الثلاثة «احتجاجا سلميا» حقا، أم أنه يدخل تحت مسمى آخر تماما، وأنه ممارسة للعنف، في عرض الشارع، واعتداء علني، وصريح، ومباشر، على رجل شرطة يؤدي مهام وظيفته.

والحقيقة، أنك لا تعرف بالضبط، ما إذا كانت مثل هذه الاعتراضات الدولية، على حكم قضائي مجرد، تمثل حرصا من جانب العواصم الثلاث التي انطلقت منها، على العمل المدني الحقيقي، والشفاف، والمعلن على الناس بكل تفاصيله، أم أنه حرص على شيء آخر لا نعرفه.

وبمعني آخر: هل الأمر بالنسبة للمحكوم عليهم الثلاثة، يعني المسؤولين في العواصم الثلاث، إلى هذا الحد؟! ومنذ متى كان هذا الاهتمام، وهذا الحرص، وهذه الحساسية، لهذا الموضوع على وجه التحديد؟!

أقول هذا، ثم أنقل عن الوزيرة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي السابقة، التي قالت في شهادتها على محاكمات لمنظمات في المجتمع المدني، أثناء فترة حكم المجلس العسكري السابق، إن إجمالي ما دخل إلى مصر، لهذه المنظمات وغيرها، في الفترة من فبراير (شباط) 2011 إلى أغسطس (آب) من العام نفسه، أي خلال ستة أشهر فقط، بلغ 105 ملايين دولار، من الولايات المتحدة وحدها.

مبلغ يقترب من المليار جنيه مصري، جاء من واشنطن وحدها، في ستة أشهر فقط، فكم، إذن، جاء بعد، وكم جاء من قبل، من مختلف الاتجاهات، وفي سبيل ماذا؟! وما علاقة هذا كله بالضجة التي أثيرت، أميركيا، وأوروبيا، بمجرد الحكم على ثلاثة من نشطاء هذا المجتمع، ودون التوقف، ولو للحظة واحدة، أمام الجرائم التي حوكموا على أساسها؟!

لا أتهم أحدا، ولا أبرئه، فهذا شأن خاص بالقضاء وحده، وليس شأنا لأي جهة بخلافه، وإذا كان النشطاء الثلاثة، يرون في الحكم الذي صدر بحقهم، حكما قاسيا، كما قيل، ولا يتناسب مع حجم ما ارتكبوه، فهذا حقهم الذي لا ينازعهم فيه أحد، وهذا أيضا ما يتيحه لهم القانون، بشرط أن تكون ترجمة هذا الاعتراض من ناحيتهم، أمام القضاء نفسه، في مرحلة الاستئناف، الذي يملك أن يؤيد الحكم، أو يخففه بما يراه، وليس أبدا في الشارع، وإلا كان مطلوبا من القاضي أن يحكم حسب هوى هذا الشارع، وهو ما لا يرضى به عاقل، ولا يقره قانون!