حوكمة للخير!

TT

في الأيام القليلة الماضية برزت قصة تجميد عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات الخيرية في مصر بسبب ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين التي جرى تصنيفها بشكل رسمي بأنها جماعة إرهابية. وطبعا حصل هناك «خلط» بين جماعات خيرية جادة ومحترمة وتقوم بعملها بمنتهى الجدية والأمانة والمصداقية، وأخرى مشبوهة، الأمر الذي يعيد إلينا المشهد المعروف والمتأزم لحال العديد من الجمعيات الخيرية في العالم الإسلامي، والتسونامي الهائل الذي أصابها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك لأن هذه الجمعيات كافة وضعت تحت المجهر بعد وجود اتهامات عريضة حول حصول «اختراق» واستغلال كثير من هذه الأموال لصالح بعض المجموعات الإرهابية والمتطرفة، مما تسبب في إعادة هيكلة وغربلة هائلة في العديد من هذه الجمعيات، وأظهرت تلك التجربة المحورية العديد من العيوب ومكامن الخلل في الإدارة والمراجعة، و«تخمة» تسيب عظيمة جعلت «نسبة» غير بسيطة من كل مبلغ تهدر، وطبعا هذا يعود إلى أنه، تقليديا، لم يكن ينظر للجمعيات الخيرية على أنها كيانات إدارية تتلقى وتدير الأموال وتصرفها، وبالتالي هي بحاجة لنظم إدارية وتوظيف جاد للتقنية واختيار أفضل الكوادر البشرية بعوائد مجزية (بدلا من الاعتماد فقط على العمل التطوعي بلا مقابل)، وبالتالي، كل ذلك يجعل هناك ضرورة ماسة لتطوير آليات المكاشفة والشفافية والحوكمة في هذه الجمعيات الخيرية التي هي حتى الآن لا تخضع لقواعد محاسبية صارمة تجري فيها معاقبة المخالف وإيقاف النشاط في حال ثبوت ما يستدعي ذلك، تماما كما يحدث مع الشركات المساهمة العامة، والمعايير التي تحكم ذلك من قبل الجهات التشريعية والرقابية التي تشرف على ذلك الأمر الدقيق.

ولا تزال الجمعيات الخيرية لليوم منطقة «هشة» و«رخوة» جدا، ومن الممكن اختراقها بشكل سهل إلى حد كبير من قبل الأشقياء وأصحاب النوايا السيئة لأجل التطرف أو تبييض الأموال. وبعض هذه الجمعيات الخيرية له مكانة غير بسيطة في وجدان الناس أكسبته الثقة والجدارة عبر السنوات، وبالتالي مكنته من الحصول على الملايين من الأموال بشكل يسير، وباتت بالتالي هذه المسألة تقتضي تعاملا مختلفا يتجاوز مبدأ التعامل مع أهل الثقة فقط، ويقتضي الأمر أن يكون هناك تعامل مبني على فكر أهل الثقة والمصداقية والكفاءة والجدارة المهنية.

تجارب بعض المنظمات والجمعيات الخيرية العالمية تستحق الإشادة والتمعن والدراسة بعمق، فحتى هذا المجال لحقه التطور ووصلت إليه أوجه التحسين في مجالات القوانين واللوائح والسياسات والتشريعات، وكذلك استخدام أكثر فعالية للتقنية بأشكالها المختلفة. هناك معايير يجري اللجوء إليها لقياس «فعالية» أداء وإدارة الجمعيات الخيرية المختلفة، وتقاس، بناء على ذلك، نسبة هذه الفعالية.. فالمفروض في أحسن الحالات أن تحقق الجمعية «أقل» قدر من المصاريف على الجانب الإداري من كل مبلغ يصل إليها. والجمعية الخيرية الأميركية المعروفة وذائعة الصيت «يونايتد واي» حققت أفضل المعدلات في هذا النطاق وسجلت 20%، متفوقة على جمعية الصليب الأحمر الخيرية الدولية العريقة.

واليوم يستفيد رجل الأعمال المتقاعد بيل غيتس، الذي يدير هو وزوجته ملندا جمعية خيرية ناجحة لمكافحة الملاريا والأمراض الأخرى تحديدا في القارة الأفريقية، بأسلوب عملي سلس فيه كثير من التبسيط الإداري والتوكيل بحق الأعمال للغير outstanding حتى تقلل التكاليف الأساسية والثابتة في العمل الخيري التي مع الوقت تلتهم المال المنشود توجيهه لوجهات الخير والاحتياج الحقيقي.

وزارات الشؤون الاجتماعية بحاجة لأن تضيف عينا مالية وإدارية خبيرة تنظم العمل الخيري بشكل أكثر جدارة وأكثر مهنية، فيه إفصاح حقيقي ومكاشفة واضحة وحوكمة جادة ومحاسبة واقعية، لأن أموال الناس أمانة، ومعاملة هذه الأموال مطلوب أن تكون على مستوى هذه الأمانة، حتى يرتاح الناس ويطمئنوا بأنهم يدركون وعلى يقين من أن أموالهم معروف وضعها، وأنها في أمان، ومقصدها واضح، والهدر بعيد عنها، وهي جميعا قضايا ومطالب تظل بعيدة المنال اليوم في ظل وجود أنظمة «رخوة» وخجولة في تعاملها مع المخطئ والمتقاعس في قضاء حق أمانات الغير.

الجمعيات والمؤسسات الخيرية لا ينظر إليها بالجدية الكافية بوصفها مؤسسات مالية بها حقوق ناس وتقضى بها حوائج ناس.. ومتى كان الوضع فيها من دون رقابة وحوكمة، استمرت الشكوك والقلق تجاه نواياها وأدائها وأهدافها، والمجتمعات في غنى كامل وتام عن قلق من هذا النوع.