سياسة المدن!

TT

هناك اعتقاد، وجيه ومهم، أن الكثير من قصص النجاح الإداري والسياسي اللافت عادة ما يكون في المدن الكبرى، وهناك الكثير من الأمثلة المؤيدة لذلك، فإذا تابعنا قصص صعود رجب طيب أردوغان إلى رأس السلطة في تركيا اليوم لرأينا محطة إدارته كعمدة لمدينة إسطنبول والتطوير الهائل الذي أحدثه فيها في مجالات التجميل والبنية التحتية والزحام المروري وشبكة المترو والنظافة والعشوائيات.

وكذلك الأمر بالنسبة للإيراني السابق أحمدي نجاد إبان توليه أمانة مدينة طهران. فالنجاح المصغر له انعكاسات كبرى وأصداء مدوية، والعالم شهد أمثلة أخرى تؤكد هذه المسألة، في قلب أفريقيا وبكبرى مدنها، وتحديدا في مدينة لاغوس النيجيرية التي كانت مضرب الأمثال في سوء الإدارة، أتى عليها باميتوندا فاشولا ليحولها بالتدريج إلى قصة نجاح تخرج من أنقاض المستحيل واللامعقول. وهي تشبه تماما ما حدث مع عمدة مدينة كلكتا الهندية منذ عقد من الزمان، وهي المدينة التي كانت تروى عنها أساطير الفقر والفساد والعجز واليأس وكانت مقر الأم تيرسيا ودور الرعاية التي كانت ترعاها نظرا لسوء الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي.

وهذا المثال رأيناه عربيا، بصورة مصغرة، في مدينة الإسكندرية عندما تولى إدارتها عبد السلام محجوب وأبلى بلاء حسنا بشكل استثنائي ومميز، وتمكن من إحداث التغيير المطلوب ومصالحة شعب المدينة بشكل غير مسبوق. وهذا المثال رأيناه الآن مع نهاية حقبة عمدة مدينة نيويورك الكبرى رجل الأعمال المعروف مايكل بلومبرغ الذي مد جسور الثقة بين نيويورك وسكانها عبر التطوير الحقيقي في البنية التحتية وتحسين مناخ الاستثمار، ومن ثم جذب الشركات وتطوير فرص التوظيف ومناخ العمل بشكل مفيد وعملي، وهو الذي أعاد للمدينة بريقها وجعلها تعاود المنافسة مع أهم المدن الكبرى حول العالم، وطبعا هذا جعل الإشاعات تلاحقه مطالبة إياه بالترشح لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وذلك بعد نجاحه في إدارة كبرى مدنها بنجاح مميز ولافت.

والحديث عن نيويورك حتما ينقلنا للحديث عن لندن، نبض العالم وعاصمة الكون التي تشهد هي الأخرى حالة من التطوير والتحسين لتبقيها في مكانتها المميزة التي جعلتها المدينة الأهم والأولى حول العالم، يتفق على عشقها أهل الشرق والغرب بشكل استثنائي، وذلك بقيادة عمدتها بوريس جونسون، وهو أيضا يداعبه طموح لا يخفيه إلى أن يرشح نفسه لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة.

المدن الكبرى باتت اليوم تشكل حالة تنموية واقتصادية وحدها، والنجاح فيها بأثر ملموس ومشهود يجعلها منصة لطموحات أكبر ولمعايير جديدة، تدرس وتتابع، وهو ما كان مغفلا ومهملا منذ القدم لصالح التركيز على التجارب السياسية الأكبر التي كانت مليئة بالآيديولوجيا وبالشعارات وبالتحالفات الهشة والفضفاضة التي ثبت مع مرور الوقت والأيام أنها جميعها مضللة ولا تفيد.

البدايات الصغرى الناجحة، وتحديدا إدارة المدن الكبرى بنجاح، هي أهم عناصر صناعة الأمل، التي بنجاحها يجري تعميم الخير للغير، وهو ما أدركته دول محدودة، ولكن يبقى التعميم للغير. كانت المدن قديما هي التي تصنع مجدها بنجاح، وعرفنا ذلك في تواريخ البندقية ولاهاي وأثينا وروما وغيرهم، واليوم نرى ذلك مجددا.