ضرورة حل النزاعات الإثنية في جنوب السودان

TT

هناك فرصة سانحة لمنع انزلاق جنوب السودان نحو الحرب وانهيار الدولة، بيد أن هذه الفرصة يجب استغلالها في غضون يومين، وإلا فإننا سنفقدها. ولذلك، فإن قادة جنوب السودان مطالبون بعدم التأثر بالمشكلات المتعلقة بضيق الأفق والعصبية القبلية وسياسة التصفير، مع ضرورة تطوير برنامج وطني للخروج من هذا الوضع. ويتعين على رئيس جنوب السودان سلفا كير والأعضاء الآخرين الذين يمثلون النخبة السياسية للبلاد - في الحكومة والمعارضة، داخل جنوب السودان أو المناطق الأخرى - الرد على هذا التحدي ومواجهته الآن، وإلا فإن التاريخ سيذكرهم على أنهم خائنون لبلادهم.

وقعت الحكومة السودانية اتفاقية سلام تاريخية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي اتخذت من شمال السودان مقرا لها، منذ تسع سنوات، وتحديدا في 9 يناير (كانون الثاني) 2005. ونتج عن هذه الاتفاقية إنهاء حالة الحرب التي استمرت أكثر من 20 عاما بين شمال السودان وجنوب السودان. وتُوجت هذه الاتفاقية بإجراء الاستفتاء - الذي جرى في الفترة من 9 إلى 15 يناير لعام 2011 - حيث صوّت سكان جنوب السودان بأغلبية ساحقة من أجل استقلال جنوب السودان. ومن جانبها، رحبت أفريقيا والمجتمع الدولي بالجمهورية الجديدة لجنوب السودان آملين في أن تقوم تلك الدولة الجديدة بطي هذه الصفحة من النزاع والمعاناة.

بيد أن اتفاقية السلام وإظهار الوحدة والاستقلال اكتنفت بالكثير من الجراح غير الملتئمة. وأثناء هذه السنوات الطويلة من الحرب الأهلية، لم يتحد سكان جنوب السودان وانفجرت انقساماتهم متطورة إلى صراع دموي طاحن في عام 1991 بعد أن تحدى المسؤولون بالحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة العقيد جون قرنق. وصار هذا النزاع حربا قبلية، تتركز بشكل رئيس بين قبيلة الدينكا وقبيلة النوير، وتضمنت تلك الحرب وقوع مذابح للمدنيين من كلا الطرفين، بالإضافة إلى المجاعات. وقد أدت هذه الأعمال الوحشية إلى التسبب في وجود جروح عميقة.

وفي العقد التالي، تعهد رؤساء الكنائس والقادة بالمجتمع المدني والأصدقاء من الخارج، بما في ذلك ممثلو الولايات المتحدة، بأن يأخذوا على عاتقهم بذل الجهد والعمل الدؤوب «لإحلال السلام» بين جماعات جنوب السودان. ولم تكتمل هذه المهمة عندما جرى توقيع اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب في عام 2005. ووسط حالة النشوة جراء تحقيق هذا السلام والعمل على إعادة إعمار المناطق التي تعرضت للدمار بسبب ويلات الحرب، تجاهل الرئيس كير، الذي تولى مقاليد السلطة بعد وفاة قرنق في حادث تحطم طائرة هليكوبتر عام 2005، مواصلة العمل اللازم لتحقيق المصالحة. وفي المقابل، ظلت مسألة انتظار الاستقلال والعائدات النفطية الوفيرة هي المسيطرة على المظهر الخارجي للوحدة. وعليه، فإن تلك الجراح غير الملتئمة هي التي تمزق وحدة جنوب السودان في الوقت الراهن.

وبعد مرور عامين من تحقيق الاستقلال، اندلع نزاع سياسي بين الرئيس كير ونائبه رياك مشار بصورة علانية. ومن ثم، أقال كير نائبه مشار والكثير من وزرائه. ومنذ أسبوعين، تحول هذا النزاع بشكل مفاجئ من مجرد منافسة للحصول على الأصوات في الهيئات الحاكمة بالحركة الشعبية لتحرير السودان إلى نزاع قبلي عنيف بصورة مروعة. وفي الواقع، إن سرعة وقوة عملية الحشد والتعبئة الإثنية لا تهدد بنشوب حرب واسعة النطاق فحسب، بل تسبب مخاطر وجود قابلية شديدة لحدوث مثل هذه الحالة في دولة جنوب السودان أيضا.

يدخل الوسطاء الأفارقة والدوليون في سباق مع الزمن بهدف منع تطور هذا النزاع. فعندما يتحول النزاع السياسي بالكامل إلى قتال من أجل بقاء طائفة من الطوائف، يتلاشى التأثير الخارجي ويختفي. وفي هذا السياق، اتخذت دولتا إثيوبيا وكينيا، القائمتان بمهامهما نيابة عن الدول الأفريقية، خطوات لعقد قمة في نيروبي يوم الجمعة بهدف إيقاف ومنع وقوع المزيد من العنف. وطالبت الدولتان بوقف إطلاق النار واحترام حقوق الـ11 قائدا سياسيا رفيعي المستوي، الذين اعتقلتهم الحكومة (وجرى الإفراج عن اثنين منهم يوم السبت). وأكدت الدولتان على المبادئ الأساسية المتبعة في أفريقيا: أي عدم حدوث تغيير غير دستوري في الحكومة وضرورة قيام حكومة جنوب السودان ببناء دولة قابلة للاستمرار والنمو، بالإضافة إلى بقاء الرئيس كير، ولكن مع ضرورة إجراء المفاوضات.

ويأتي وقف إطلاق النار على رأس الأولويات. بيد أنه يجب على الوسطاء عدم الاكتفاء بمجرد تشكيل تحالف حاكم والعودة إلى ممارسة العمل كما هو معتاد قبل حلول موعد الانتخابات المزمع عقدها في عام 2015. ويمكن أن تصبح صيغة تقاسم السلطات مجرد تقسيم آخر للغنائم، كما يمكن أن تصير الانتخابات ممارسة أخرى للانقسام الإثني.

ومنذ فترة طويلة، تهرّب قادة جنوب السودان من مسؤولياتهم من خلال إلقاء اللائمة على المشكلات فيما يخص الحرب والسياسات القمعية لحكومة الخرطوم. وفي الوقت الحالي، فمع الوضع في الاعتبار كون هؤلاء القادة في نفس الموقف الذي يواجهه قادة الدول، يجب عليهم الالتزام بالقواعد. وتهدد الولايات المتحدة، مع الأخذ في الحسبان وجود الكثير من الشكوك لدى دولة جنوب السودان بخصوص ذلك، بوقف المساعدات في حال اغتصاب السلطة أو الاستحواذ عليها بالقوة. ويعتبر هذا الأمر صحيحا إلى حد ما، حيث إن عملية سياسية يجب أن تكون مصحوبة بمراعاة التاريخ المؤلم والفريد من نوعه لجنوب السودان. وتتمثل المهمة الأكبر في إجراء مباحثات وطنية شاملة بشأن ما يخص شؤون الدولة. ويجب على النخب السياسية الانصياع لصوت الحكمة والعقل الصادر عن رجال الدين وقادة المجتمع المدني، الذين يصرون على عودة السياسيين إلى مسار الحوار لمعالجة الوضع. ويكمن السبيل نحو إقامة دولة قابلة للنمو والاستمرار في إجراء المصالحة الوطنية.

وفي هذا السياق، فإن النخب تلقت مقدارا هائلا من الثروات الطبيعية، بالإضافة إلى السمعة الطيبة على المستوى الدولي بشكل لا حصر له عقب إجراء الاستفتاء التاريخي، بيد أنها بددت كل ذلك. وتهاوت تلك النخب وسقطت في ثقافة الفساد والاستغلال الشخصي الواضح وتدبير المؤامرات السياسية القبلية. وعلاوة على ذلك، فإن هذه النخب لم تكن جادة بشأن تحقيق الديمقراطية أو بناء المؤسسات أو حتى توفير الخدمات الأساسية الأكثر إلحاحا، مفضلة التعاقد الخارجي مع وكالات الإغاثة الأجنبية.

اتخذ القادة الأفارقة، المدعومون من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة، خطوات أساسية تجاه الضغط على قادة جنوب السودان من أجل وقف الحرب. بيد أن المسؤولية الأعمق المتمثلة في تشكيل دولة في جنوب السودان يعيش أفرادها في حالة سلام تقع على كاهل قادة البلاد.

* عبد الله محمد، رئيس فريق الاتحاد الأفريقي رفيع المستوى المعني بتنفيذ الاتفاقيات في السودان وجنوب السودان.. وأليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام الدولي بكلية فليتشر في جامعة تفتس الأميركية

* خدمة «واشنطن بوست»