الفنان الثائر

TT

تعرض الأكاديمية الملكية في هذا الموسم معرضا للرسام الفرنسي دوميير، الاشتراكي الثوري الذي انضم بكل ثقله في القرن التاسع عشر إلى الحركات العمالية وسجن عدة أشهر بسبب نشاطه. ذهبت لمشاهدة أعماله وفهمت لماذا ألقت به السلطات في السجن. كان قد شارك في عدة مظاهرات وإضرابات وسخر ريشته لتصوير معاناة الطبقة العاملة، وبصورة خاصة المرأة وأطفالها. هناك عدة لوحات ورسوم تصور شقاءها ومأساويتها.

واجه الحرفيون والعمال اليدويون محنة ضاربة بحلول الآلات الحديثة محلهم وقيامها بإنتاج سلعهم بأسعار أرخص وكميات أكبر. اضطر بعض العمال التقليديين إلى مهاجمة المعامل الحديثة وتدمير ما فيها من آلات. قام الحياك في باريس عام 1834 بهجوم عنيف على آلات النسيج الحديثة. اضطرت الشرطة إلى التدخل وفتحت النار عليهم مما أدى إلى مقتل العشرات منهم. تركت جثثهم في العراء عدة أيام. صور دوميير كل ذلك. وفي هذا المعرض لوحة مريعة بالحبر الأسود لأحد القتلى بجثته العارية وبطنه المنتفخ. منعت الرقابة عرض الصورة في أي مكان أو نشرها في أي صحيفة.

بعيدا عن دراما الحياة العمالية، كرس دوميير قلمه لرسم كاريكاتيرات صحافية تسخر من الحكومة القائمة ووزرائها ومن دهاقنة الرأسمالية وأباطرة الصناعة. وفي المعرض مجموعة كبيرة من الرسوم والتماثيل الكاريكاتيرية الممعنة في السخرية من رجال الدولة.

بيد أن الصحافة الفرنسية قد ضاقت ذرعا بأعماله في الأخير فتوقفت عن استخدامه. عانى الرسامون كثيرا من شظف العيش في ذلك القرن بعد أن توقفت الكنيسة والدولة عن تكليفهم بالأعمال. وباستغناء الصحف عن كاريكاتيرياته وقع دوميير في أزمة معيشية كبيرة اضطرته إلى القيام بأي عمل تصويري يحتاج إليه الجمهور، ومن ذلك رسم الصور الشخصية (البورتريه). وفي هذا المجال كلفه أحد الأغنياء برسم صورة له. أنجز دوميير الصورة وسلمها له، ولكنّ الرسامين كثيرا ما يعبرون في صورهم الشخصية عن مشاعرهم تجاه الشخص المرسوم. هذا مطب كثيرا ما وقعت فيه شخصيا عندما كنت أكسب معيشتي من رسم البورتريه للزبائن. ولا شك أن دوميير عبر عن شعوره السلبي ضد هذا الرجل الرأسمالي. وكانت الغلطة غلطته في أن يختار رساما اشتراكيا يكره الرأسمالية ليرسمه، فما إن تسلم اللوحة ونظر إليها حتى امتعض واشمأز منها. قال للرسام: «أرفض تسلمها لأنها لا تشبهني». قال له: «لا، بل تشبهك. ونأتي بشهود يحكمون في الموضوع. عليك أن تدفع لي أتعابي ولك أن ترمي بها في الزبالة»، بيد أن الرجل رفض أن يدفع، فقاضاه في المحاكم. شهد الخبراء بأنها فعلا تشبهه، فحكم القاضي لصالح دوميير، ثم سأله: «كم ساعة قضيت في رسمها لأحسب لك أجرك؟». فأجابه دوميير: «يا حضرة القاضي. لا تحسب قيمة لوحة بعدد الساعات التي قضيت في رسمها. احسب السنين الطويلة التي قضيتها في تعلم فن الرسم والتي مكنتني من إنتاج مثل هذه اللوحة»!