الموت في سبيل «داعش»!

TT

يبدو أنه عام التطرف و«القاعدة» وأخواتها بامتياز. الأخبار تتوالى عن توافد وتقاطر عشرات المقاتلين بلا قضية إلى الأراضي السورية، والمفارقة أن المنتسبين إلى دول غربية هم النسبة الأكبر، إضافة إلى تولي زمام إدارة هذه المجموعات، المجندة في غالبها «رقميا» على معسكرات «القاعدة» بالإنترنت، الجيل الذي نشأ واكتسب خبراته في الحرب على العراق، بمعنى آخر هو أكثر نسخ «القاعدة» وعيا بطبيعة الصراع وأكثر تأسيسا على مستوى الأفكار التي تبدأ بتكفير الواقع، ثم تبني وجوب الهجرة، وصولا إلى التحول إلى داعية للانخراط في التجربة المسلحة. هذه المراحل الثلاث: التكفير، والهجرة، والدعوة، تندرج تحتها مئات الطرق والأنشطة والمنتجات، سواء على الشبكة، أو حتى فيما كان يعرف قديما في «القاعدة» المبكرة بالتنظيم الشبكي القائم على اصطياد الكادر ضمن شبكة المعارف وهكذا (فكرة الشبكات تبناها المحلل النفسي الدكتور مارك سيغمان في كتابه «فهم الشبكات الإرهابية»).

خطورة كوادر الإرهاب الجديد، أن مساحة «المغرر بهم» تضاءلت لحساب المنخرطين عن وعي وقناعة فكرية وتأصيل قاعدي متين. قبل أيام، قتل أبو بصير الجزراوي (مازن بن مقبل المورقي)، وقد عين أميرا للمعهد الشرعي بحلب، وفكرة المعاهد في معسكرات «القاعدة» ببساطة، هي تحويل الشاب المتحمس المغرر به إلى كادر يتبنى أفكار «القاعدة». في وصيته المنشورة على «تويتر»، كتب (مازن): «اجتمعت ملة الكفر على (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وعلى رأسهم (لواء التوحيد) جنودا وقادة... يعلم الله، ما تركتكم كرها لكم، ولكن نصرة لدين الله وهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، وأنصح العسكر، من أهلي خاصة والمسلمين عامة، أن ينقذوا أنفسهم من النار والخروج من وحل الردة... إلخ». وهي مانفيستو دعائي للعنف والتكفير والعزلة عن العالم أكثر من كونها وصية شخص قرر أن ينهي حياته.

أزمتنا في فهم «القاعدة»، هي النظر إليها فقط من زاوية سياسية، باعتبار أن ثمة مغررا بهم يجري استغلالهم من قبل منظمات مرتبطة بجهات خارجية ودول معادية، وهذا رغم صوابيته باعترافات القاعديين أنفسهم - (على مدى شهور، كانت هناك سلسلة مراجعات في التلفزيون السعودي، حملت اعترافات مهمة جدا تساهم في فهم المرحلة الجديدة لـ«القاعدة» والاستخبارات) - يخفي الجانب الأهم من الحقيقة، وهو البناء التحتي لفكرة العنف، وهو أمر ثابت وليس التمظهر السياسي المتغير والمتحول.

فهم كيف يتبنى الشباب، ليس فقط أفكار «القاعدة» العامة، وإنما قناعات وخيارات «جبهة النصرة» أو «داعش» التفصيلية - هذا لا يمكن الوصول إليه لمن لم يعش التجربة ويعرف آليات التجنيد والاستقطاب والعزلة التي تفصل هذه الكوادر في الميدان عن الواقع بملابساته المختلفة، وهو الأمر الذي يؤكده مقتل عدد من الشباب في «النصرة» على يد كوادر «داعش» الذين ذهبوا بدافع واحد فضفاض ودعائي «نصرة المسلمين»، لينتهي بهم المطاف إلى أن يبادر كل منهم إلى قتل الآخر، وربما من يقرأ تفاصيل مقتل «نايف المطيري»، من «داعش»، على يد شاب سعودي آخر من «النصرة»، يدرك حجم وخطورة ما أتحدث عنه. «القاعدة الفكرية» أخطر بما لا يقاس بالقاعدة العسكرية، فأكبر التقديرات لا تؤكد وجود أكثر من 8500 مقاتل ينتسبون إلى أكثر من 80 دولة، في تأكيد لولادة تنظيم عالمي معولم على الأرض بعد أن وجد في مخيلة قادة التنظيم بن لادن والظواهري وأبو مصعب السوري المنظر الفكري الأهم على مدى عقود، الذي كان يردد دائما أن «(القاعدة) ليست منظمة ولا ينبغي لها أن تغدو منظمة»، وإنما هي «دعوة ومرجعية ونهج».

هذه النخب المعولمة المقاتلة هي أهم سلاح تمتلكه «القاعدة»؛ بسبب قدرتهم على استقطاب المزيد عبر آلة الدعاية القاعدية، المتفوقة على كل التنظيمات الأخرى لأسباب تتعلق بشعاراتها وقدرتها على النفاذ إلى قلوب الشباب في أوقات الأزمات الكبرى والإخفاقات النفسية، وأيضا في ظل غياب أي مقاومة فكرية منهجية رغم النجاحات الأمنية.

دفع المجتمع السعودي الثمن غاليا بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) فيما يخص «المناعة من التطرف»، وذلك بسبب الضربات الإرهابية التي طالت داخل المملكة واستهدفت الذات، إلا أن واقع الحالة السورية المعقد ومظلومية الشعب السوري أمام نظام دموي كانا ثغرة لنفاذ فكرة العودة إلى القتال في مناطق التوتر، ذلك أن المناعة لم تكن إلا بسبب التفوق الأمني وليس بسبب خطاب ثقافي وتربوي وفكري وديني ممانع. ولذلك، لا يمكن الحديث عن ضرورة تغذية المناعة الاجتماعية تجاه أفكار «القاعدة» العنفية فحسب، بل الأهم الآن الشروع في برامج مناعة اجتماعية ضد التطرف بكل أشكاله، لأن التطرف هو المكون الأساسي لكل الأفكار المشتركة لتنظيمات العنف المسلح. المفكر الفرنسي، المتخصص بالحركات الإسلامية منذ السبعينات، «جيل كيبل»، نشر كتابا مهما في ذروة صعود «القاعدة»، كان مختلفا في فكرته ومضمونه، عن السائد في الدراسات الغربية التي تعتمد التحليل السياسي وجمع الشواهد والتتبع للأفكار والأشخاص والمواقف السياسية والمناخ الذي يولد فيه التطرف. جيل كيبل كتب «القاعدة في النص» جمع فيه نصوصا ووصايا ومقالات ورسائل شخصية لمنظري «القاعدة» وترجمها إلى الفرنسية مع تعليقات لماحة وشروحات تهم القارئ الغربي، وحقق الكتاب نجاحا كبيرا لأن فكرته قامت على أنه يجب أن نسمع ماذا يقولون قبل أن نحلل ما قالوه.. نحن بحاجة إلى أن نستمع إلى «المغرر بهم» قبل أن نتحدث عنهم.

[email protected]