تحضيرات مجابهة حرب تحرير الكويت

TT

لم يكن غزو الكويت قرارا كارثيا وفق الحسابات العسكرية وحسب، بل كان تجاوزا خطيرا على المبادئ السليمة والقيم الإنسانية، ونكرانا لجميل كويتي عظيم على مستوى القيادة والشعب، في مساندة العراق في ظروف خطيرة للغاية. وكل ما ساقه النظام السابق من تبريرات ليس إلا هراء لا يستحق التوقف عنده.

وكان اعتراف القيادة الحالية لحزب البعث بالخطأ موقفا يستحق التأمل، فقصص التجاوز النفطي، والإضرار بقيمة الدينار العراقي، والتآمر مع أميركا وغيرها، تبدو قصصا سطحية ساذجة، قادت في النتيجة إلى خروج الوضع من يد المنطقة، وانفلات كوابح السيطرة في مرحلة تسببت في الكوارث، التي لا تزال تتفاقم على مستوى الإقليم والبلاد العربية، وتغير معادلات الشرق الأوسط رأسا على عقب.

وللإنصاف، فقد واجهت القيادة الكويتية القراءات الخاطئة لبعض القادة العراقيين لمعطيات التاريخ، بعقلانية كبيرة، ولم تتخلَ عن دورها في الدفاع عن مصالح العراق في أكثر من مرحلة، وهذا مسجل تاريخيا. ومن جانب آخر، قرأت القيادة العراقية الموقف والاحتمالات بطريقة خاطئة يمكن تفاديها من قبل أي ضابط استخبارات له إلمام بألف باء التحليل السياسي والعسكري والأمني. وفعلا، وللأمانة التاريخية، فإن الاستخبارات العسكرية العراقية قدمت قراءات دقيقة للغاية، وتوثقت شخصيا، من أن رئيس الجمهورية كان مدركا تماما لكل ما كُتب في تقارير الاستخبارات، وقلت هذا الكلام علنا أثناء رئاسة صدام للعراق.

في مثل هذه الأيام قبل 23 عاما، استكملت القوات العراقية ترتيباتها الدفاعية لحرب يدرك كل عسكري بمعرفة بسيطة أنها حرب خاسرة، فهل يُعقل أن يتخذ قرار خوض حرب على أرض مفتوحة في ظروف «سيادة جوية مطلقة»؟ وأن يجري التعويل على خندق مُلِئ بالنفط لإعاقة حركة القوات المدرعة على جبهة واسعة؟ أو أن تحرق آبار النفط لتوليد سحب دخان لمنع الرصد الجوي..؟ وهل يعقل حشد القوات الرئيسة في جيب مهلك، يمكن عزله بمناورة واسعة خارج منطقة العمليات المباشرة، وهو ما حدث فعلا في عملية الاندفاع المباشر إلى نهر الفرات جوا وبرا؟

غير أن القيادة العسكرية قد وضعت أمام خيارات غاية في التعقيد، نتيجة قرارات سياسية كارثية، أثبت تبادل الزيارات بين بغداد وموسكو أنها بنيت على أوهام الجهل السياسي، والجهل في تقدير الموقف العسكري، أو على الأقل الانسياق وراء مقترحات وآراء وتحليلات ورؤى قاصرة. وبقينا في الاستخبارات ننظر إلى هذه المواقف المريرة بعين الإدراك التام، لكن لا حيلة لنا ولا قرار بأيدينا غير أن نكتب ما تحتمه علينا أمانة المسؤولية، ولو لم تكن تقديراتنا وقراءاتنا صائبة لتحملنا مسؤولية الكارثة، ولما ظهرت هذه السطور على الورق الآن، سطور أكتبها أمانة أدرك معانيها أمام الله والناس ولا أقول عن قناعة فقط، لأنني عشت أحداثها، ولست الوحيد الذي رأى الكارثة بعينه.

لا أشكك في قوة أعصاب صدام، فهي معروفة للناس، ولا في أعصاب كثير من قادته، لكن موظفي القصر الجمهوري حرصوا - بتوجيه أمني - على عدم فتح ستائر نوافذ دوائرهم، تفاديا لاستطلاع الأقمار الصناعية ورصدها، وهي مبالغة مفرطة للغاية. فما حيلة القوات البرية المفتوحة في أرض صحراوية مكشوفة تماما؟ وكيف يراد منها أن تخفي ترتيباتها الدفاعية التي تعكس التفصيلات الجزئية لخطط الحرب، وإدارة العمليات المحتملة؟ وكيف يمكن المحافظة على الروح المعنوية للمقاتلين، تحت ضغوط حرب نفسية شديدة، لم يشهد لها التاريخ مثيلا؟

تبادل الزيارات بين بغداد وموسكو حتى الأيام الأخيرة، التي تدخل ضمن مفهوم الوقت الضائع، أعطت دليلا قاطعا على أن التقارير الصادقة لم تجد آذانا تصغي لمنطق حسابات الاستخبارات وتقدير الموقف الاستراتيجي السليم. ومن أبسط تدابير المنطق العسكري أن يجري التحسب لأسوأ الاحتمالات، حتى لو اتخذت قرارات بتحدي الاحتمالات الأخطر، عندما تضيق فسحة الخيارات المتاحة. ولست مقتنعا «بالمرة» بأن الحرب كانت ستقع لو أعلن العراق سحب قواته، «ولو قبل يوم واحد فقط».

نكران الجميل، والغرور، والوهم، والقراءات الخاطئة، واجترار التاريخ بطريقة غير واقعية ولا علمية ولا منطقية، وديكتاتورية «السلطة» المطلقة في العراق، عوامل قادت إلى الوضع المأساوي الحالي. ويوم الجمعة المقبل سيصادف الذكرى الـ23 لبدء الحرب، وإذا قُدّر، فسأكتب شيئا عن حرب عشت تفصيلاتها، وتابعتها بدقة من أهم مراكز المراقبة والمتابعة والاطلاع على مدار الساعة.