لا للحياد!

TT

هل يمكن أن يكون الإنسان على «الحياد» وهو يرى البطش والفساد والعنصرية والتكفير والطغيان والاستبداد سواء أكان ذلك الأمر مجتمعا أم صفات منهم؟ الحياد في هذه الحالة يصبح ضربا من النفاق الاستثنائي جدا وغير القابل للتصديق أبدا. اليوم نرى تقلبات وموجات غضب وتململ مختلفة تجتاح العالم العربي نظرا لوجود فئات من المجتمع تقف في منطقة رمادية مزعجة بسلبيتها بحجة «الحياد»، وهي تكون بذلك من حيث لا تدري ولا تقصد تساعد في زيادة المشكلة واتساع رقعتها.

سويسرا وهي أشهر حالات «الحياد» في العالم اليوم كانت مثار نقد حاد من المجتمعات الغربية حينما وقفت على الحياد التام أيام أحداث الحرب العالمية الثانية، واتهمت بصريح العبارة أنها ساعدت ودعمت القوى النازية بالسماح لحكوماتهم باستخدام الحسابات المصرفية بالمصارف السويسرية المعروفة، وأن هذه المصارف استفادت من محرقة اليهود بالاستيلاء على أموالهم التي كانت لديهم وماطلت جدا في كشفها وإثبات ملكية الورثة لها لعقود طويلة من الزمن، وعد نفر غير قليل من المحللين السياسيين والخبراء الأكاديميين في التاريخ الأوروبي أن الموقف السويسري هذا كان علامة سوداء في تاريخها.

وكذلك الأمر حينما اختار لبنان موقف سياسة «النأي بالنفس» بالنسبة لأحداث ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد، وهو موقف سلبي ورمادي وتبدو فيه نصرة للظالم على المظلوم لأنه على أقل تقدير يساوي بينهما، وليت لبنان اكتفى بذلك الأمر ولكنه كحكومة غض النظر عن إرسال فصيل أصيل في الحكومة، وهو حزب الله، أرتالا من ميليشياته وسلاحه لنصرة النظام المجرم في سوريا، مخالفا بذلك سياسة الدولة الصريحة والمعلنة بحق هذا الوضع الملتهب. وعلى مستويات أكبر أجد حالات السلبية الحيادية في المواقف التي تأخذها الحكومات والمجتمعات العربية بحق قضايا العنصرية والتطرف، وهما مسألتان متوغلتان بشدة، ومشاهدهما تملأ الساحات ومن الممكن متابعة لهيبهما المتصاعد في قنوات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها وأنواعها، وهي «المناسبات» التي باتت تأتي في أشكال مهرجانات ثقافية ومنتديات تراثية ومباريات رياضية، سرعان ما تتحول إلى عنصرية بغيضة وتطرف مقيت، وتبقى ردود الفعل لمواجهتها سلبية جدا لأنها تقف على الحياد حتى لا تتهم بمناصرة طرف لصالح طرف آخر، ولكن الوضع لا يمكن أن يستقيم باستمرار ما كانت الأمور عليه.

الظاهرة مسمومة وقاتلة وفتاكة، وهي تنذر بخطر جسيم إذا لم يجر استصدار قوانين «تجريم» واضحة وصريحة تكون العقوبة فيها عاجلة وعادلة على الجميع. ولنا في القارة الأوروبية مثال مهم على ما تقوم به الاتحادات الرياضية فيها، وخصوصا اتحادات كرة القدم، من جهد قانوني وتشريعي وسياسي لافت ومميز للغاية لأجل محاربة العنصرية وإعادة تأهيل المجاميع الاجتماعية من بوابة الرياضة، وهي مسألة تمس جيل الشباب في المقام الأول، وطبعا لا يزال المشوار طويلا، ولكن ما قامت به أوروبا يبقى نقلة حضارية وأخلاقية قوية مقارنة مع غيرها من المجتمعات الأخرى ذات الحضارات وذات الديانات القديمة العريقة.

بقاء المجتمعات على حالة «حياد» مقيتة لمواجهة أمراض اجتماعية هائلة تغزوها وتنمو وتكبر وتتوغل وتستقر فيها، بات مسألة تهدد السوية الاجتماعية والاستقرار والأمن فيها إذا ما أهملت. وهناك عشرات من الحوادث التي يطلق عليها سذاجة «حوادث فردية» تدل على أن مستصغر الشرر بدأ في الاشتعال، وإذا لم يجر التعامل مع ذلك الأمر بحكمة وحزم وحسم فوري فالقادم مؤسف.