الفكر العربي ومشكلة المفاهيم

TT

ألقى المفكر المغربي الدكتور سعيد شبار مداخلة قيمة الأسبوع الماضي عن «المفاهيم في التداول الفكري المعاصر». كان ذلك في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في الرباط العامرة. وقد قدمه الدكتور منتصر حمادة، المهتم بشؤون الفكر العربي والغربي على حد سواء. في البداية، أشاد الدكتور شبار بهذه المؤسسة الجديدة الصاعدة الهادفة إلى تحقيق التجديد الفكري والإصلاح الديني في العالم العربي. وقال إنها تزداد نفوذا وتأثيرا بفضل نشاطاتها المتواصلة في شتى أقطار العرب وعواصمهم ومدنهم. وهي نشاطات تتجلى على هيئة مؤتمرات علمية وورش بحثية وإصدار مجلات جديدة كمجلة «يتفكرون» و«ألباب»، وغير ذلك من كتب ومطبوعات. ثم دخل الأستاذ المحاضر في صلب الموضوع وقال لنا إن المفاهيم هي مفاتيح العلوم. فلا يوجد علم إلا وهو مرتكز على جملة من المفاهيم والمصطلحات. وهذا الشيء ينطبق على العلوم الإسلامية العريقة كعلم الفقه وأصول الدين وعلم الكلام والفلسفة كما ينطبق على العلوم الحديثة. فهناك مصطلحات لأهل الحديث، ومصطلحات للتصوف والاعتزال... إلخ، وإذا ما أخطأنا في إدراك المفاهيم غابت عنا فوائد العلوم. وحذر الأستاذ المحاضر من خطرين يترصدان الثقافة العربية: خطر الاستلاب في الداخل أي في الماضي، وخطر الاستلاب في الخارج، أي في الغرب. الخطر الأول يؤدي إلى الجمود والسكون والتكرار والاجترار. وقال لنا: غوصوا في الماضي ما شاء الله لكم أن تغوصوا، ولكن عودوا إلى الحاضر في نهاية المطاف! فالماضي مضى بكل عظمته وهمومه ومشكلاته ورجالاته، ونحن بحاجة لمن يحل لنا مشكلات الحاضر لا أن يقبع في غياهب الماضي. والعكس صحيح أيضا: تبحروا في الحداثة الغربية بقدر المستطاع، ولكن عودوا إلى هموم الفكر العربي وهويتكم الإسلامية العريقة في نهاية المطاف. لا تذوبوا في الغرب ولا تنسوا جذوركم وتراثكم.

ثم طرح مشكلة تبيئة المفاهيم في الثقافة العربية. وهو مصطلح تعود أبوته إلى الأستاذ الجابري على ما يبدو. فليست كل المفاهيم المنقولة من الغرب ضرورية أو مفيدة. وأما المفاهيم الضرورية فينبغي تبيئتها لكي تنغرس وتندمج في الثقافة العربية الإسلامية. وطرح الدكتور شبار في هذا الصدد تمييز الجابري بين مفهوم قابل للاندماج هو العقلانية، وآخر غير قابل للاندماج في ثقافتنا هو العلمانية. والسبب هو أنه يصدم حساسيتنا الإسلامية ويتعارض مع جوهرها ولسنا بحاجة إليه لأنه لا يوجد كهنوت في الإسلام ولا كنيسة لكي نقبل بفصل الدين عن الدولة كما فعل الغرب. هذا شيء عويص ومستحيل في العالم الإسلامي، بحسب الجابري. بالطبع، هذا الرأي يحتاج إلى نقاش معمق أكثر. ولكن ما نريد قوله هنا هو أن الثقافة العربية لكي تتحاشى هذه المعضلة الكبيرة راحت تتحدث أخيرا عن الدولة المدنية لا الدولة العلمانية «المفزعة» التي يتوهم الكثيرون بأنها تريد سلخنا عن ديننا وتراثنا. وأما البعض فيتحدثون عن دولة مدنية بخلفية إسلامية أو بمرجعية دينية. لمَ لا؟ ولكن بشرط أن تكون هذه المرجعية الدينية متنورة وأن تعتبر الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا بشرا أيضا له كرامته ويستحق أن يحترم في إنسانيته ويعتبر مواطنا لا أن يحتقر أو ينبذ كما حصل على مدار التاريخ. لا يمكن للشرق أن يهدأ قبل أن تحسم هذه المسألة. ولا يمكن أن تحسم قبل أن تنتصر الأنوار العربية على الظلمات العربية. نقطة على السطر. اللهم قد بلغت! أنا شخصيا لست ضد إحلال مفهوم الدولة المدنية محل مفهوم الدولة العلمانية إذا كانت كلمة علمانية ترعبنا إلى مثل هذا الحد. هل نريد قتل الناطور أم قطف العنب؟ المهم الوصول إلى نفس النتيجة. وفي هذا الصدد لا بد من الإشادة بالدستور التونسي الجديد الذي ينص على أن «تونس دولة مدنية كافلة لحرية الضمير والمعتقد». كما نشيد بمصر، الشقيقة الكبرى، التي تصوت الآن ديمقراطيا على دستورها الجديد العتيد. لأول مرة يعطي الربيع العربي ثماره! وهذا يعني ضمنيا التخلي عن فتاوى التكفير الإرهابية التي دمرت النسيج الوطني لمجتمعاتنا أو توشك أن تدمره.

أخيرا، سأقول ما يلي كتعليق عام شامل على محاضرة الدكتور سعيد شبار. لقد واجهتني مشكلة تعريب المصطلحات على مدار 30 سنة أثناء ترجمتي لأعمال المفكر الجزائري الكبير محمد أركون. وأعرف ماذا تعنيه بالضبط. ينبغي العلم بأن نظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي تنطبق أيضا على المصطلحات والمفاهيم. فهناك مصطلحات تولد ميتة أو سرعان ما تموت. وهناك مصطلحات ناجحة تنتشر بسرعة البرق وتعيش ويجري تعميمها على أوسع نطاق. كل من مارس الترجمة الفكرية يعرف ذلك. فمثلا مصطلح «القطيعة الإبيستمولوجية» نجحت تبيئته في الثقافة العربية وشاع وانتشر. ومعلوم أنه مأخوذ عن العالم الإبيستمولوجي الشهير غاستون باشلار. وقل الأمر ذاته عن مصطلح «الرأسمال الرمزي» المأخوذ عن عالم الاجتماع بيير بورديو، أو مصطلحات «المفكر فيه»، و«اللامفكر فيه»، و«المستحيل التفكير فيه» حاليا في العالم العربي، التي اخترعها أركون... إلخ، ولكن هذا لا يكفي، وإنما ينبغي نقل آلاف المصطلحات إلى اللغة العربية لإنعاش الفكر العربي وإنقاذ اللغة العربية أيضا! فنحن لا نستطيع أحيانا أن نكتب بحثا علميا أو فلسفيا في اللغة العربية لأن المفاهيم الدقيقة غير متوافرة فيها بالشكل الكافي حتى الآن. والحق ليس عليها، وإنما على قومها الذين انقطعوا عن حركة العلم والبحث طيلة عصور الانحطاط. فاللغة العربية أثبتت إبان العصر الذهبي أنها لغة علم وفلسفة وحضارة، بل كانت لغة العالم المثقف كله آنذاك. وبالتالي، فالعلة ليست فيها على الإطلاق كما يزعم المغرضون والمشوشون. ولكن ليس هؤلاء هم الذين سيقضون عليها. هل تعرفون من سيقضي عليها لا سمح الله؟ أنا أقول لكم: إنهم المتقعرون المتفاصحون المتفذلكون الذين يريدون تجميدها في مرحلة ماضوية سابقة ومنعها من التنفس والتطور والتحلحل. إنهم يخنقونها في الوقت الذي يزعمون فيه حمايتها! ومن الحب ما قتل. ومن الغباء أيضا.