بعد أسبوع على جريمة «المحرقة»

TT

أسبوع مضى على إحراق «مكتبة السائح»، ظلما وعدوانا. وهي واحدة من أهم المكتبات اللبنانية، ومع ذلك لم يلقَ القبض على أحد، ولم يعلن، رسميا، عن أي تفصيل، حول الملابسات الخفية لهذه الجريمة النكراء، علما بأن مسؤولين كانوا قد قالوا منذ اللحظة الأولى إن من أطلق الرصاص على موظف المكتبة معروف ومن أحرقها معلوم. والتعهد كان علنيا من جهات أمنية وسياسية بملاحقة الفاعلين. فلماذا التلكؤ بمحاسبة من قرر إعدام عشرات آلاف الكتب، بإشعالها بعود كبريت، بحجة الغيرة على الدين؟

في ظل صمت الأب الأرثوذكسي الصابر، صاحب المكتبة إبراهيم سروج واكتفائه بالقول إنه «يسامح من أحرق كتبه وسيقبله على وجنتيه حين يراه لأنه غار على نبيه»، بدأت الأخبار تتسرب حول الخسائر الفعلية. يخبرني أحد الذين ساهموا في الإنقاذ، أن المكتبة كانت تحوي 85 ألف عنوان، وليس كتابا، كما شاع في البدء، وبما أن بعض العناوين كانت توجد منها نسخ كثيرة، فهذا يعني أننا نتحدث عما لا يقل عن 150 ألف كتاب، احترق 20 في المائة منها والبعض يقدرها بـ30 في المائة. أجزاء واسعة من المؤلفات المصطفة على الأرفف والمغلفة بالنايلون، وقاية لها من الرطوبة، تحولت إلى رماد، ومخطوطات يصل عمرها إلى 500 سنة تبخرت.

يتحدث المنقذون عن صناديق كرتونية ممتلئة كانت مكدسة داخل المكتبة على مساحة 5 أمتار عرضا و6 أمتار طولا، وبارتفاع ثلاثة أمتار، كادت النيران تأكلها، ونقلت إلى الحديقة الخلفية، في محاولة للحفاظ عليها.

يتكتم الأب سروج على مصير المخطوطات ومئات الكتب القديمة على اعتبار أن «الخسارة طريق إلى البركات».

ربما أن الرجل محق، لعله أكثر حكمة منا جميعا. فهو على أي حال، يفضل أن لا يستعدي محيطه أو يستفز أعداءه، ويضرب حسابا للمستقبل. فليس في نية هذا السبعيني الهجرة في آخر العمر، بعد أن جرب مرارة التواري لأيام، خوفا على حياته. فورة الشباب المتطوع التي أحاطته وهبت لنجدته، بتلقائية وحب مؤثرين، لم تكن بالقليلة. هذه النكبة جعلت الطرابلسيين المستائين في غالبيتهم الساحقة من الأفكار الظلامية، يشعرون بالموسى تصل إلى رقابهم. ما الفرق بين أي طرابلسي والأب سروج الذي صمد بمكتبته طوال الحرب الأهلية داخل الأسواق الأثرية القديمة، بالقرب من أحد أهم مساجد طرابلس؟

ثمة تبرعات واتصالات وإحاطة واهتمام رسمي وعروض بالتعويض والمساعدة، من وزارة الثقافة، مرورا بالرئيس نجيب ميقاتي، وصولا إلى أصغر الجمعيات المدنية. بعضه قد يكون مجرد كلام. لكن الرجل الذي عاش، في طرابلس العتيقة، وفي مكتبته القديمة الرطبة، مناضلا من أجل الحفاظ على عقد إيجار، في وجه مالك متغول يريد استعادة المبني التاريخي، بأي ثمن لبيعه. هذا الرجل المنسي، خرج من رماد كتبه، وبات له صيت عالمي.

لم تبقَ لغة إلا وكتبت صحفها عما أصاب الأب المسيحي، صاحب الإرث الثقافي الفريد، في المدينة ذات الغالبية المسلمة، في شمال لبنان، وعن الظلم الذي لحق به بعد اتهامه زورا بالإساءة للإسلام، والتدمير الوحشي لتراث يملكه لا يقدر بثمن. وسواء تبين، فيما بعد، أن الجريمة ارتكبت بدافع ديني فعلا لدى المعتدين، أو أن اتهام الرجل بالإساءة للإسلام كان مجرد حجة رخيصة، للانتهاء منه ومن كتبه، بحرقها عن بكرة أبيها لاستعادة العقار الذي يشغله - وهو ما بات مرجحا بالنسبة لمقربين منه - فإن الأمر خطير، لا بل وشديد الخطورة.

فهل وصل حال الفلتان، حد تكفير أي كان، وتحت ستار أي سبب مفبرك، لاستباحة الأرواح والأملاك؟ وهل صار كل من يريد أن يطرد مستأجرا أو يلغي ثقيل ظل، أو ينتقم من مزعج، بمقدوره أن يرميه بتهمة الإساءة إلى الدين، ليصبح حرا، بعد ذلك، بتصفيته، أو انتهاك بيته أو دكانه؟

الأسئلة مقلقة، في مدينة الثلاثين كنيسة، ولمواطنين طالما اعتزوا بتسمية شوارعهم باسم الراهبات، والمطران، ومار مارون. هذا غير شارع الكنائس وحارة السيدة وحي الأميركان.

من المسؤول عن حماية هذا التنوع، والتسامح الكبير الذي يعشش في قلوب المواطنين؟ وهل على المجتمع المدني أن يحرس بنفسه الممتلكات، ويعاقب ويطارد المعتدين، لاعبا كل الأدوار؟ لماذا تركت «مكتبة السائح» بلا حماية أمنية، رغم أنها كانت مهددة هي وصاحبها وكل ما يمت لهما بصلة؟ الجميع يعرف أنه كان ثمة اعتصام نظم ضد الأب سروج، عندما شنت الحملة عليه، وبعدها أطلق الرصاص على موظف المكتبة.

سروج يؤكد أن محاولة أولى لإحراق مكتبته لم تفلح، قبل المحاولة الثانية بيوم واحد. وشهود يتحدثون عن انسحاب للقوى الأمنية التي كانت تحرس المكان قبل أن ترتكب الجريمة، التي لا تزال ضد مجهول.

لن نتوقف - عملا بنصيحة الأب سروج - عند أوراق احترقت وكتب نحرت، رغم أن لا ذنب لها سوى وجودها في بلاد تجهل قيمتها. لكن يبدو بعد الذي تكشّف، وما يتم التستر عليه، أن كل مواطن لبناني مكشوف ومهدد حتى يثبت العكس.