الصحافي الديناصور في برنامج حديث

TT

في الأيام الماضية شاركت في برامج حوارية (أغلبها بالمحتوى نفسه مهما اختلفت التسميات وديكور الاستوديو) إذاعية وتلفزيونية في الاستوديو أو بالتليفون، حول تصويت المصريين المغتربين (Expatriates) في أوروبا على استفتاء الدستور.

نموذج الحوار التالي مونتاج لمقتطفات من برامج لمحطات مختلفة لتشابه الأسئلة وبغرض التبسيط. وأيضا اختصارا لأسئلة المذيع أو المذيعة من خطب طويلة تشبه خطب العقيد القذافي وتفتقر للتماسك المنطقي (Incoherent)، إذا كنت ضيفا مشاركا ستجد نفسك تائها (عندما يتفضل سعادة مقدم البرنامج ويتكرم على الضيف منتقلا إليه للإجابة) في الإمساك بطرف تبدأ منه أو مدخل تدلف منه، ولا تفقد تركيز المتفرج. فالتلفزيون وسيط تواصل صحافي تتوزع فيه الطاقة الذهنية العصبية للمتفرج بين أكثر من حاسة.

وبينما تشغل الصحيفة حاسة البصر (بجانب الطاقة الذهنية)، والراديو حاسة السمع، فالتلفزيون مرهق نسبيا للطاقة العصبية، حيث يشغل حاستي البصر والسمع، إلى جانب الذهن، خاصة والذاكرة تسترجع المخزون من كلمات وأصوات وصور، وأيضا العضلات باعتماد الغالبية على الريموت كنترول.

الدراسات تشير إلى تقلص متوسط تركيز المتفرج من أقل من دقيقتين في نهاية القرن الماضي إلى ما بين 30 و45 ثانية في العام الماضي، قبل تحول ذهنه بعيدا عن الموضوع، ووسيلة الهروب من الضغط الذهني هي بالريموت كنترول إلى قناة أخرى.

فالمعلق المحترف (ورجل السياسة الماهر في استخدام هذه الوسيلة) يركز على فكرة واحدة فقط في إجابته مهما بلغ طول أو قصر الفترة الزمنية المخصصة.

وأنا أفضل عدم تدوين سؤال المذيع مركزا على ما يقوله، وطريقة صياغة السؤال (اللغة الإنجليزية وسيط معظم مداخلاتي، تعتمد على النغمة intonation وصياغة الأداء) ولغة جسمه وتعبيراته.

طول وهلامية السؤال (لنقص ملحوظ في البحث في خلفية الموضوع نفسه) تجعل الضيف المشارك مثل من يلقي قطعة نقدية ليختار أي وجهيها سيكون مدخل الإجابة (حسب القول المصري «ملك ولّا كتابة»)، خاصة عندما تكون هناك أكثر من نقطة جديرة بالمناقشة تضمنها السؤال.

ولا أدري لماذا لا يوجه الـ«Executive Producer» أو معد البرنامج المذيع أو المذيعة إلى اختصار السؤال والتركيز على نقطة واحدة، وتأجيل أي نقطة مهمة أخرى إلى سؤال تالٍ؟

ويبدو لي أن السبب هو أن الشبكات العربية تعطي أهمية تفوق مثيلاتها في شبكات عالمية عريقة مثل «بي بي سي» مثلا للمذيع أو المذيعة النجم، بينما العقل المدبر ورسام استراتيجية البرنامج وإيقاعه وصاحب الرسالة المطلوب إيصالها للمتفرج هو المعد الذي يحرر سيناريو نصيا محكما لا يجرؤ مذيع محترف على الخروج عنه. وصاحب الكلمة النهائية المطاع كديكتاتور في المحطات المحترفة هو المعد وليس المذيع.

وأشارك القارئ هنا في نموذج لحوار هو مونتاج بضعة حوارات.

المذيع (أحيانا مذيعة): ومعنا من لندن الأستاذ... الذي تابع تصويت المصريين اليوم - أمس على الدستور في بلدان أوروبا.

أنا: أولا، يجب تنبيه السادة المشاهدين (أو المستمعين) إلى أنه لم يكن لديّ وسائل ذات مصداقية لمتابعة تصويت المصريين بدقة في كل بلدان أوروبا، لكن يمكنني التعليق على حوارات مع مصريين في العاصمة البريطانية، وأقلية، غير ممثلة إحصائيا، خارج بريطانيا عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيس بوك».

المذيع (مقاطعا): لا شك طبعا أستاذ عادل أن لديك انطباعا عن طريقة تصويتهم أو ما إذا كانت نعم أو لا؟

أنا: الانطباع من عينات «Snapshot» بالتعبير الإنجليزي، وهي ليست علمية أو دقيقة، فلا توجد آليات متاحة لديّ لهذه الإحصائيات.

المذيع (مقاطعا ومتضايقا): يعني أكيد لديك انطباع عن اتجاه التصويت؟

أنا: عزيزي، ممكن أعطيك عينات من انطباعي عما دار بين المصريين في لندن من متابعات حلقات نقاشية (Seminars) وجدل على رسائل إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعي تتلخص في أن المصريين المقيمين في بلدان ذات ديمقراطيات عريقة تعريفهم للدستور كأرضية يبنى فوقها نظام ديمقراطي وتحدد ملامح الحقوق والواجبات ودولة القانون، يختلف عن المفهوم للمصريين في مصر، حيث يخلطون بين الدستور والقوانين الأساسية والتفعيلية والجنائية، وحتى اللوائح الداخلية للاتحادات المهنية التي يشملها دستور معقد طويل يعتقد المصريون البريطانيون أن غالبية الناس لم تقرأه كاملا أو تستوعبه.

المذيع (مقاطعا بنبرة نفاد الصبر وشبه نرفزة من عدم إجابته بطريقة تتفق وما أراد سماعه): «طيب، هل معظم المصريين في أوروبا يصوتون بنعم أم لا؟».

أنا: سيدي الفاضل، لا أعرف سوى ما تابعت نقاشهم في لندن لا خارجها، ومسألة كيف سيصوتون أو صوتوا بالفعل لا يمكن لأحد معرفتها إلا بطريقتين؛ الأولى إذا أجرت إحدى وكالات الاستطلاع استجوابا (Exit Poll) لعينة من المصوتين عند خروجهم من مركز اقتراع يعيد برنامج الكومبيوتر تشغيل أرقامه إلى توقعات، والثانية عند ظهور نتائج الاستطلاع.

المذيع: هل كان الإقبال شديدا؟ وما نسبة المصوتين؟

أنا: لا يمكني الإجابة عن هذا السؤال إلا إذا نشرت كل سفارة مصرية هذه الأرقام مقارنة بعدد المصريين المقيمين في هذا البلد، لكن من خبرتي الصحافية الطويلة، لا أعرف سفارة أي بلد في العالم لديها أرقام دقيقة عن عدد رعاياها المقيمين في البلد الذي تمثلهم فيه، فلا توجد أي دولة في العالم تجعل تسجيل رعاياها في الخارج إجباريا في سفارتها، ومصر ليست استثناء في هذا، فلا تتوقع أن تكون السفارة المصرية في النمسا أو السويد أو فرنسا تعرف بالضبط عدد المصريين في هذه البلدان لتحديد هذه النسبة.

المذيع (مقاطعا وبصوت عصبي يشوبه الغضب): «طيب، انطباعك أنت إيه عندما ذهبت لتدلي بصوتك؟ هل كان هناك ازدحام؟ وما الأجواء حول مركز التصويت؟».

أنا: لم أدلُ بصوتي، فليس لي هذا الحق أو الامتياز أو الشرف لأنني مواطن بريطاني.

المذيع (والسؤال كان يجب أن يكون في البداية، وليس قرب النهاية): ما رأيك في هذه الفكرة والتطور بمشاركة المصريين بالخارج في الاستفتاء على الدستور، هل هو تطور إيجابي؟

أنا: الأمر يعود للمصريين، وليس لمعلق أو مؤرخ محايد مثلي، وكل بلد له نظامه، ومعظم البلدان الديمقراطية لا تحرم المواطن المقيم في الخارج من الإدلاء بصوته، خاصة عندما يكون مشاركا بدفع ضرائبه في بلاده.

وهنا ينهي المذيع أو المذيعة البرنامج.. وقد يلعنني ويلعن المعد أو «الديسك» المسؤول عن استدعاء الضيوف المشاركين، على خطئه الذي لا يغتفر بمشاركة عجوز مخرف مثلي كديناصور لا يفهم في البرامج الحوارية الحديثة وكيف يجعلها مشوقة للمستمع أو المتفرج بالطريقة التي أعادوا تشكيل ذوقه عليها في السنوات الأخيرة.