مخدع الرئيس

TT

بحكايته العاطفية الجديدة التي فضحتها مجلة شعبية، يكون الرئيس الفرنسي هولاند قد تعادل في النقاط مع خصمه الرئيس السابق ساركوزي. ثلاث لكل منهما... حتى الآن. إن في الحياة متسعا لأهداف جديدة، وكل منهما ما زال في زهو الكهولة، والأضواء تجذب أنواع الفراشات. لكن الفضائح، في فرنسا، سرعان ما تخفت تاركة الساحة لسجالات ثقافية وقانونية وحتى فلسفية. ما الحدود التي يجب ألا تتعداها حرية الصحافة في مثل هذه القضايا؟

سابقا، كان هناك شبه اتفاق على أن الحرية تقف عند باب غرفة النوم. إن الرئيس مسؤول أمام الشعب عما يفعله في مكتبه خلال النهار، أما لياليه فملك له وحده. وقد سخر الفرنسيون طويلا من المحكمة الشنيعة التي نصبت، علنا، للرئيس الأميركي الأسبق كلينتون، ثم تجادلوا على صفحات الجرائد وخلصوا إلى أن الحادثة عابرة وتافهة ولا تستحق كل تلك الضجة، لولا أن تفاصيلها وقعت في نواحي المكتب الرئاسي.

اليوم، يأخذ المنظّرون الفرنسيون على الصحافة أنها تقوم بـ«أمركة» القيم في هذا البلد. وهي لم تعد تكتفي بالوقوف عند باب المخدع، بل تريد أن تتسلل إليه وتلبد في خزانة الثياب أو تحت السرير. أليس هذا ما فعله مصور «كلوزر» حين رابط أمام العش الغرامي للرئيس، طوال عدة أيام، في سبيل أن يفوز بصورة له وهو في لحظة خاصة جدا؟

يمضي السجال ليفتح باباً آخر يدور حول مفهوم احترام الحياة الشخصية التي يكفلها القانون. هل هناك مناطق خفية في حياة الرجل الذي يقود 64 مليون مواطنة ومواطن ويملك شيفرة السلاح النووي؟ أليس الرئيس شخصا عاما، بحكم منصبه، ويحق لشعبه أن يعرف علاقاته كافة؟ إنه مطالب بأن يقدم كشفا بممتلكاته كاملة، وتقريرا دوريا عن حالته الصحية وسلامته من الأمراض السارية وغير السارية، ولم يبق سوى أن يقدم تقريرا مماثلا عن نشاطه العاطفي السنوي. ذلك أن على من يريد الإقامة في «الإليزيه» ومصافحة كبار العالم ودخول التاريخ، أن يدفع الثمن.

جاء هولاند إلى الرئاسة بعد خلو الساحة من لاعبين اشتراكيين كبار. لقد اشتهر بأنه السياسي «الدبدوب» خفيف الظل، صاحب القفشات الجاهزة، والرجل الذي يعيش في ظل امرأة عنيدة ذات طموح سياسي كبير هي سيغولين رويال. ولو حالف الحظ شريكة حياته وفازت بالرئاسة، فإنه كان سيدخل «الإليزيه»، أيضا، ولكن من باب «رجل فرنسا الأول». إنه الكابوس الذي لم يتحقق، لذلك لملم هولاند حاجاته، في أقرب فرصة، ليجد راحته لدى الصحافية فاليري تريرفيلر التي كان يغازلها وتغازله من وراء الأبواب المغلقة. وهذه الأخيرة قررت بخبرتها أن تجعل منه رجلا آخر؛ تمارين رياضية، وحمية غذائية، وعوينات خفيفة الإطار، وبدلات مفصلة على المقاس، وتسريحة أكثر عصرية.

ولو كان موليير، صاحب مسرحية «الطبيب رغما عنه» حيا، لربما استلهم من هولاند نصا ثانيا بعنوان «الرئيس رغما عنه». ويبدو أن الأضواء باتت تتعب عيني الرجل الذي عاش في الظل. لقد مل من قيود فاليري، ومن الإحباط الذي يسببه له تناول الخضار المسلوقة والحرمان من أطايب المطبخ الفرنسي التقليدي، ومن ترصد الصحافة لعباراته الفكاهية عندما تحبك معه النكتة، ومن هذه الحقبة الرئاسية المتلازمة مع أزمة اقتصادية خانقة تحيل وعوده الانتخابية سرابا. إنه عاجز أمام كل هذه الملايين التي لا تشبع وتتظاهر لتطالب بتوفير العمل والسكن واللقمة ورفع المخصصات الاجتماعية وخفض الضرائب. هل يلومه أحد إذا هو هرب من القصر، لسويعات، وعاش كما يحب ويشتهي؟ يفطر على «الكرواسون» بالزبدة بدل حصة اللبن منزوع الدسم؟

يروى أن الرئيس الأسبق ميتران، عندما قاربته المنية، قرر أن يمتع نفسه بوجبة حرمه طبيبه منها طويلا. وقد جمع المقربين من الرفاق، في بيته الريفي، وأولم لهم نوعا من الطيور الدسمة المقلية. والإتيكيت يقضي بأن يسدل الآكلون حجابا رقيقا على وجوههم وهم يمسكون الطيور بالأيدي ويفتكون بها، نهشة بعد نهشة، بينما الدهن يسيل على الأصابع وجوانب الأفواه. ولا أدري إن كان هولاند حاضرا في ذلك العشاء الأخير. لكن الدرس كان واضحا: عش لحظتك كأنك رئيس أبدا... لا كأنك تموت غدا.