لماذا «نعم» لدستور ما بعد الإخوان؟!

TT

في أول حوار تلفزيوني، مع التلفزيون المصري، بعد توليه منصبه كرئيس مؤقت لمصر، في 4 يوليو (تموز) الماضي، قال المستشار عدلي منصور إن ما يشغله، ويشغل حكومته، أربع قضايا لا خامس لها: الأمن، الاقتصاد، خريطة المستقبل المعلنة في 3 يوليو، ثم التعليم.

يومها، توقف كثيرون ممن تابعوا الحوار، عند الأولوية الرابعة تحديدا، لسببين أساسيين، أولهما أنه من الطبيعي أن ينشغل رجل في موقع المستشار منصور، بالأولويات الثلاث الأولى.. طبيعي.. ولكن من غير الطبيعي، أن يكون التعليم، كقضية مزمنة في بلدنا، شاغلا له إلى هذا الحد، وعلى هذا المستوى، بحيث تكون حاضرة طول الوقت، أمام عينيه، إلى جوار القضايا الثلاث الأخرى.

والسبب الثاني، أن هذه كانت المرة الأولى، التي يخرج فيها رئيس الجمهورية، خلال العقود الأربعة الماضية، على المصريين، ليقول لهم إن التعليم يشغله، ويشكل هاجسا بالنسبة له في منصبه.. فمبارك لم يفعلها، على مدى 30 سنة قضاها في الحكم، وكان التعليم عنده، بامتداد تلك السنين، مسألة هامشية، وعابرة، وكان يأتي، إذا أتى، ضمن قضايا أخرى كثيرة، بحيث يتوه بينها، ولا يحظى بأي ميزة في التعامل من جانب الدولة.. ولا فعلها «مرسي» كذلك، في العام الذي حكم فيه، هو وجماعته، إلى الدرجة التي تستطيع أن تراهن فيها نفسك، وتكسب الرهان، على أن «مرسي» لم يحدث أن تم ضبطه متلبسا، ولو بطريق الخطأ، وهو يتحدث عن التعليم، أو يشير إليه.

وفي أول حوار للمستشار منصور، مع صحيفة خارج مصر، قال للدكتور عادل الطريفي، رئيس تحرير «الشرق الأوسط»، بأن أفضل ما يمكن أن يقدمه هو وحكومته، للشباب، إنما هو التعليم الجيد، ولا شيء غيره.

وفي لحظة الجد، فإن ملخص هذا كله، أن توجيه الرعاية الكافية من جانب الحكومة.. أي حكومة.. إلى التعليم، ليس كلاما وكفى، ولكنه خطوات تتحقق على الأرض وأفعال يراها الناس، ثم إنها، أي تلك الرعاية، تظل التزاما جادا، قبل الخطوات، وقبل الأفعال.

ذلك أنه من الجائز جدا، أن نسمع كلام المستشار منصور، في المرتين، مرئيا مرة، ومكتوبا مرة، ونسعد به، فإذا ما تلفتنا حولنا، لم نجد له رصيدا حولنا.

فلما انتهت لجنة الخمسين، برئاسة عمرو موسى، من وضع دستور ما بعد الإخوان، الذي سيجري استفتاء المصريين عليه، غدا، وبعد غد، تبين أن ما قال به رئيس الجمهورية، في المرتين، أصبح له ظل من الحقيقة في إحدى مواده، وأن الرجل لم يكن يطلق الكلام على عواهنه، ولا كان يتاجر بحاجة الناس إلى أن يتوافر لهم تعليم ذو مضمون، في المدارس والجامعات.

فهذه هي المرة الأولى، التي يصدر فيها دستور مصري، ليلزم الحكومة بأن تنفق على التعليم، مع الصحة، مع البحث العلمي، 10 في المائة من إجمالي الناتج القومي.. لم يحدث هذا في دستور الإخوان الصادر عام 2012، ولا في دستور 1971، السابق عليه، ولا حتى في أي دستور مصري سبقهما، فقد كان شأن التعليم، قبل أن يجري النص دستوريا على نسبة الإنفاق عليه بوضوح هكذا، متروكا لاجتهاد كل حكومة، ولأولويات كل عصر، وربما لم يكن هناك من أدرك أهمية التعليم، وحتمية أن يكون أولوية لدى الحاكم، لا تنازعها أولوية أخرى، سوى رجلين من مسؤولينا بامتداد القرن العشرين كله: طه حسين، عندما أطلق وقت أن كان وزيرا، صيحته الشهيرة بأن التعليم يجب أن يتاح للكافة «كالماء والهواء»، وقد صارت العبارة مثلا يضرب عنه، في حياته، وبعد مماته، وكان الرجل الثاني هو عبد الناصر، الذي أتم مجانية التعليم في جميع مراحله، وإن كانت الحصيلة لقراره، لم تأت مع الأسف على قدر نبل الهدف.

وقد كانت المشكلة التي لم يتحسب لها عبد الناصر، والتي نعاني منها، إلى اليوم، أن إطلاق المجانية لا يعني أبدا أن يحصل كل ملتحق بالتعليم على شهادة جامعية، ولا أن تساوي الدولة، وهي تفتح مدارسها وجامعاتها أمام الملايين، بين الموهوب منهم وغير الموهوب.

فمنذ أن انفتحت أبواب المدارس والجامعات، أمام الجميع، بمجانية كاملة، دون مراعاة هذين الضابطين، وجدنا أنفسنا في النهاية، أمام فرص عمل متوافرة في الأسواق، ثم في الوقت نفسه أمام خريجين في الجامعات متعلمين، ولكنهم ليسوا قادرين، ولا مؤهلين، لملء هذه الفرص، لا لشيء، إلا لأن تعليمهم المجاني، أعطاهم شهادة، ولكنه لم يؤهلهم لما ينبغي أن يتأهلوا له في سوق العمل.

ولهذا، فإن التعليم المنتج، في أي بلد، هو تعليم ناتج عن حاجتين رئيستين: إنفاق يكفي، ثم رؤية تسبق الإنفاق وتوجهه.

أما الحاجة الأولى، فقد كنا نبحث عنها، ولا نجدها، وننادي بها، ولا يستجيب أحد، إلى أن استجاب الرئيس منصور، والدستور الجديد معا.

وسوف تبقى بعد ذلك، تلك الحاجة الثانية، التي هي في ضرورة الأولى، سواء بسواء، لأنه في غيابها يحدث ما حدث في آخر سنوات «مبارك» وكان مثارا للدهشة والسخرية، حين أعادت وزارة التربية والتعليم فائضا من ميزانيتها إلى الخزانة العامة للدولة، ولم يكن لذلك من معنى، إلا أن المال اللازم للإنفاق، قد حضر، مهما صغر حجمه، ثم غابت الرؤية، فعاد بعضه إلى حيث أتى، وبقي التعليم على حاله!