العشوائية السياسية!

TT

العالم العربي يمر بمرحلةمن «العشوائيات السياسية» غير العادية. مرحلة ردود أفعال آنية على أحداث كبيرة ولكنها تظل، وبالمجمل، ردود أفعال عشوائية على أحسن تقدير. ها هما العراق وسوريا يخوضان حربا ضد «القاعدة» و«داعش». ولا ننس وجود جماعات أخرى تكفيرية وإرهابية مثل حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس.

تزرع هذه الجماعات وتسقى بالفكر المتطرف ويجري رعايتها ثم تحارب ويعلن على الملأ الخوف منها وينسبون بكل وقاحة إلى الشعوب المنكوبة المذبوحة وهي نفس العقلية التي كانت يوما تمجد في حكم الأسد وحزب الله وتعتبرهما نصيرين للفلسطينيين وقضيتهم العادلة، بينما في واقع الأمر لم يقم أحد بتشتيت الفلسطينيين وإحداث وإشعال الفتن بينهم وقتلهم مثل الذي قام به نظام الأسد.

ولعل ما يحدث الآن في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق من قتل وتجويع وترويع وإهانات ومذلة لهو دليل دامغ آخر وعظيم على وقاحة وجرم النظام السوري بحق الفلسطينيين ونفاقه السياسي الهائل. ومصر التي أعلنت رسميا حربا مفتوحة على الإرهاب، تدخل اليوم مرحلة أساسية من خارطة الطريق التي رسمتها لنفسها، رصدت فيها أهدافا واضحة وصريحة، أهمها كان التصنيف البين والعلني بأن جماعة الإخوان المسلمين لم تعد فقط جماعة محظورة كما كانت توصف قديما ولكنها تحولت إلى جماعة مصنفة «إرهابية».

ويبدأ المصريون خطوات مهمة بالمشاركة في التصويت على دستور بلادهم الجديد الذي تمت صياغته بعناية فائقة ليكون هو النقلة السياسية المأمولة لدولة مدنية تحفظ فيها حقوق كافة المواطنين أمام القانون بلا تمييز ولا تفرقة مع وجود مظلة دينية واضحة تحمي كل ذلك. وهي، بلا شك، خطوة جبارة ترفع سقف النظم القانونية الدستورية في بلاد المنطقة إذا ما تم إقراره بالتصويت الإيجابي عليه من قبل الشعب. وطبعا تتواصل الضغوط الشعبية الهائلة على الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع لحثه على الإقدام لترشيح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية.

وطبعا مع هذا الوضع حدث انقسام طبيعي في الرأي العام الشعبي المؤيد لثورة 30 يونيو التي أيدها الجيش ودعمها، فهناك من يرى ضرورة أن يترشح السيسي حتى يكون «صمام أمان» المرحلة المقبلة ويجمع شمل المصريين ويؤمن بقيادته وحدة الصف الجماهيري. وهناك فريق آخر يرى أن نزول السيسي للترشح «سيحرقه» ويجعله يواجه كافة الانتقادات بشكل مباشر وفوري؛ وبالتالي سيفقده الشعبية بشكل سريع، بينما سيكون لدوره كوزير دفاع فعالية أكبر كداعم للدولة وللرئيس الجديد.

والشيء المزعج في «شعبية» الفريق أول السيسي هو مقارنته بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وتشبيهه به، وهي طبعا كارثة لأن عبد الناصر ديكتاتور ومدمر للحريات وتسبب في أكبر خسائر وكوارث العالم العربي في سنة 1967 وذلك برعونة إدارته للبلاد وللجيش. الأمل كان أن ينظر للسيسي بشكل بعيد عن العواطف وأن يكون هناك نظرة للمستقبل المتجرد من كوارث الماضي ومصائبه العظيمة. ولكنه فصل ومشهد جديد من «العشوائية السياسية» المسيطرة على العالم العربي، التي تسمح بتصوير فرق إرهابية حقيرة على أنهم مجاهدون وينصرون كلمة الله، وهي التي تصنف أكبر خيبة قيادية بأنها الزعيم الخالد وتتمنى من قائد جديد للبلاد أن يكون مثله وهي التي تصنف أعداء أصحاب القضية بأنهم مقاومون وممانعون.

«العشوائية السياسية» هي حالة ذهنية مستعصية نراها في مشاهد متعددة ومختلفة جدا ولكنها جميعا توصل إلى نفس النتائج وذات الأسباب. تعددت الأشكال والعشوائية هي ذاتها.