بسالات الحرب العظمى وحماقاتها

TT

سميت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) بالحرب العظمى. واستحقت هذه التسمية، ولا سيما بالنسبة لنا فهي التي أدت إلى تمزق عالمنا العربي. ولا عجب أن أصبحت مجلة «الحرب العظمى» أروج مجلة بيننا في الثلاثينات.

لم أشارك فيها فلم أكن قد ولدت بعد. فأرجو عدم اتهامي بالضلوع في تمزيق العالم العربي. فعلت ذلك فيما بعد. ولكنني فتنت بها وذهبت أكثر من مرة لزيارة خنادق الجبهة الغربية في بلجيكا وفرنسا. يظهر أنني مبتلى بالماسوشية التي دفعتني لذلك. تميزت الحرب العظمى بأنها كانت آخر حرب يستعمل فيها السلاح الأبيض. فحروب هذه الأيام حروب جبناء. تشارك فيها وأنت في مكتبك أو بيتك في واشنطن بمجرد الضغط على أحد الأزرار الإلكترونية فتنطلق طائرات الدرون وتضرب وتقتل العشرات في اليمن مثلا وأنت مستريح في بيتك. لم يكن الأمر كذلك في الحرب العظمى. كان عليك أن تنزل في خنادق الجبهة وتغرق بأوحالها وتنتظر الأمر: «اصعدوا»! فتصعد من الخندق فيستقبلك رصاص العدو من الخندق المقابل. أنت سعيد ومحظوظ إن أصابتك طلقة وأنهت أمرك. ولكنك إن سلمت فعليك الركض نحو رصاص العدو وخنادقه حتى تسمع صرخة الضابط: «الحراب!» فتهرع لتركيب الحربة على بندقيتك وتقفز بها نحو صدر العدو الذي يكون بدوره قد أعد حربته لاستقبالك. وأنت وحظك عندئذ. إما أنت وإما هو؟ وإن نجوت فسيكون عليك أن تقفز في خندق العدو وتعاركهم بالخناجر والحراب، حتى تسمع بوق الانسحاب: تط! تط! تتطط. تدرك عندئذ أن الهجوم قد فشل. وأنت ونصيبك. تلقي بحربتك الدامية وبندقيتك الخالية وتركض مهزوما والرصاص يلاحقك.

كانت الحرب العظمى أول وآخر حرب جرى فيها القتال بهذا الشكل. جلست على حافة أحد الخنادق وانطلقت بالخيال. وعدت وأنا شخص آخر. كيف يمكن لإنسان أن يفعل مثل ذلك بأخيه الإنسان؟ شهور طويلة من هذا القتال المرير والعيش والنوم في خندق تحول إلى مستنقع والمطر يهطل على من تكدسوا على طينه من موتى وأحياء. وكل يوم يدوي بوق الهجوم ويخرج الأولاد من الخندق ويعودون ببوق الانسحاب وقد فقدوا نصف زملائهم على ساحة الحياد. يخرج ضابط عند الغروب حاملا علما أبيض. تسمحون لنا نسحب قتلانا من الساحة؟ «تفضل»! يجيبه الضابط من الخندق المقابل. «شكرا». «لا شكر على الواجب»!

نهار جميل يقضونه بسحل مائتين أو ثلاثمائة جثة ليدفنوها! كان الكثير منهم فنانين وشعراء وأدباء وعلماء ومفكرين. هل فكروا في هذه الحماقة التي ألقاهم بها أسيادهم؟ أجاب الجنود الألمان على السؤال. «اصعدوا»! «كلا لن نصعد». امتنعوا عن الخروج من خندقهم. سمع بخبرهم رفاقهم على جبهات الفلاندرز وفعلوا مثل فعلهم وأنهوا الحرب.

مشيت في الخندق وأنا أستشهد بقول المعري:

خفف الوطء فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد!

خرجت من الطرف الثاني ليواجهني على رابية جندي حزين يطرق برأسه حائرا. كتبوا تحت التمثال «الجندي يتأمل».