اعتذار آخر من عبد الله بشارة

TT

تلاقيت واختلفت مع عبد الله بشارة، خلال نصف قرن، في أمور كثيرة. على الرغم من الصداقة التي تجمعنا، وقعت في مراحل عدَّة تحت تأثير منتقديه، وكان من السهل أن تنتقده، لأنه معاند لا يأبه كثيرا للذين رأوا فيه مغاليا وطنيا في الزمن القومي. لم يبحث عن صورة «المثقف» أو «المنفتح» بل أصرّ على أن يرى كل شيء من منظور كويتي، وبعدها من منظور خليجي. توقف هناك.

مثل هذه الشخصية كانت خارج السائد وخارج المألوف. وفي المرحلة التي تقدمت الكويت دولا عربية كثيرة في المد القومي، ولمعت صحافتها كبديل لصحافة بيروت المحتربة، بقي عبد الله بشارة مرابطا في «كويتيَّته». عندما كان سفيرا لدى الأمم المتحدة كان يُشاهَد دائما مع سفراء الهند وباكستان وآسيا بدل السفراء العرب. ولذلك، كان يهاجمه المخبرون الصغار وأزلام السفارات. أما في مهامه كسفير، فكان أكثر دقَّة ونشاطا من سفير الصين أو سويسرا.

عندما أقرأ عبد الله بشارة في «الوطن» كل أسبوع، أرى كم كنت على خطأ يوم اختلفت معه. لم يتغيَّر ولم يغير. لكن الدنيا من حوله قد زلزلت. لا يزال انعزاليا كويتيا لا يساوم، فيما تدفع الكويت ثمن المساومة والتسويف والتأجيل وعدم الحسم. يقول في مقال الخميس: «هذا الوضع الإقليمي المزري يفرض على دول الخليج أن تنتفض بحيوية وديناميكية من أجل التعامل مع هذه التهديدات الخطرة التي شرذمت المجتمعات إلى تمحورات طائفية وقبلية ومذهبية يتقاتل بعضها للبقاء، وبعضها للسطوة، لكنها جميعا تؤسس لخراب المنطقة ودمارها».

يناشد عبد الله بشارة رئيس الوزراء الشيخ جاسم المبارك، الخروج عن التقليدي في تشكيل الحكومة الجديدة «وأن يتجاوز قاعدة الأعمار إلى قاعدة أهلية الكفاءة (...) والتأكيد على سيادة القانون وفرض العدالة». ويرى أن ما حدث في تونس وفي مصر مبارك ومصر محمد مرسي كان سببه سقوط العدالة «وما يدور في سورية هو كفاح من أجل العدالة، فإذا اضطربت العدالة انهار المجتمع وتلاشت الدولة (...) وأخطر ما يؤذي المجتمعات هو تسلل أنصاف الكفاءة والعاجزين، إلى المسؤوليات الكبرى عبر الباب الخلفي للتاريخ».

أُخضع العالم العربي طوال نصف قرن لأصوات الضجيج والكذب والسطوة على المقدرات وعقول الشعوب وإرادة البناء والتقدم. وأطربنا رنين الفراغ واستعارات الفصاحة التي غطت فداحة العجز وتفاقم التخلف. وكنّا نصغي إلى أحكام وأقوال ومفاهيم صغار المخبرين. مشوا، كل واحد إلى وكره، وظل صوت العقل ينادي بالعقل، خسر هو أم خسرنا نحن.