وبدأت عاصفة الصحراء

TT

بعد «استقلالها» عن وزارة الدفاع وقيودها، أقيم المبنى الحديث للاستخبارات العسكرية على واحدة من أجمل بقع بغداد بجوار الكاظمية. وحتى الآن، لا تزال بقايا أشجار النخيل باسقة وسط ساحات المبنى الكبير. وفي نهار اليوم الذي سبق بدء حرب تحرير الكويت التي أخذت الاسم الرمزي «عاصفة الصحراء»، هبطت أسراب من آلاف الغربان في ساحات الاستخبارات، وهي حالة لا سابق لها في الزمان والمكان، وفسرت على أنها حالة إنذار سماوي بما سيحدث بعد ساعات، وليس كما ينظر الشرقيون عادة إلى الغربان نظرة نحس. ومع منتصف الليل (في مثل هذا اليوم قبل 23 عاما) غادرنا المبنى إلى معسكر خاص جنوب بغداد بوصفه أحد المقرات البديلة، وبدأت «العاصفة» بموجات متعاقبة من الصواريخ وغارات جوية مكثفة، «ولم تصب كل القيادات العراقية بأذى»، إلا أن الشلل بدأ يلوح على مفاصل القيادة والسيطرة المعتادة.

وعلى الرغم مما أسقط من طائرات، فإن قدرات وسائل الدفاع الجوي العراقية بدأت تتآكل أمام كثافة الضربات والتشويش الإلكتروني الجارف. وكل شيء في العراق أصبح منطقة مضروبة، من زاخو شمالا إلى الفاو جنوبا، ومن الشرق إلى الغرب.. وبقيت القوات البرية في الكويت وجنوب العراق تحت الغارات لستة أسابيع متواصلة بلا توقف. وجرى نقل قوة الضربة الجوية من الطائرات الحديثة إلى إيران، «للمحافظة عليها»، ومنذ اللحظات الأولى ظهرت ملامح الموقف الإيراني من خلال استنطاق الطيارين، الذين هبطوا بطائراتهم في القواعد الجوية الإيرانية، عن الغارات التي شاركوا فيها خلال حرب السنوات الثماني، والأوسمة والأنواط التي حصلوا عليها. إلا أن القيادة العراقية واصلت نقل الطائرات، التي تشكل الآن جزءا من الطيران المقاتل الإيراني.

وأخذت الحرب النفسية العنيفة، والسيادة الجوية المطلقة لقوات التحالف، والضغط على المنظومة الإدارية، والخسائر الفادحة، تؤثر بشدة على الروح المعنوية للمقاتلين والشعب، وفقد كثير من التشكيلات الأساسية القدرة القتالية، وانخفض الموجود القتالي من الأشخاص بشدة.. وكل شيء كان مرصودا من قبل الاستخبارات العسكرية، التي تولى ضباط منها تفقد التشكيلات في مناطق القصف، وتصل خلاصات تقاريرهم إلى الرئيس شخصيا، إلا أن القيادة فقدت أي خيار غير انتظار المصير المكتوب. وقد علق الرئيس صدام على أحد تقارير الاستخبارات بالنص: «إنكم تتصرفون كأنكم تجار سلاح وتروجون للأسلحة الغربية.. سيكون النصر حليفنا»، وأنا مسؤول أمام الله عن أمانة كتابة «كل كلمة» من هذا التعليق.

كانت القيادات العسكرية منتشرة طبقا لثقل توزيع القوات، ويحتفظ صدام بحلقات اتصال مستمر معها، مع تفادي استخدام الهاتف من قبله لأسباب أمنية. وقبل بدء الحرب البرية، بقيت سياقات القيادة مستمرة وفق التوجيهات المحددة، دون الحاجة إلى إدخال تعديلات - عدا عملية الخفجي - التي بنيت على أساس الإخلال بخطط التحالف، ومحاولة الحصول على «بضعة آلاف» من الأسرى، لوضعهم على ظهور الدبابات للاندفاع جنوبا «كما خيل لصاحب القرار».

ومع بدء العمليات البرية، ظهر بوضوح البعد الخطير للتقديرات الخاطئة، ومن الصعب جدا تصور حالة غير التي حدثت، في ضوء المقارنة التكنولوجية والنارية بين الطرفين، وأبلغت بأمر الرئيس بأن أقوم بإيجاز بإحاطة الموجودين من القادة السياسيين بالموقف القتالي، وكان ضمن الحضور أعضاء من القيادة؛ طه الجزراوي وطارق عزيز ورئيس البرلمان سعدون حمادي ولطيف نصيف جاسم، وقد اعترض عليّ سعدون حمادي بقوله: «تقولون: ليأتِ الهجوم البري، والآن جاء الهجوم البري فأينكم..؟»، فقلت له إننا لم نقل: «ليأتِ الهجوم البري»، فقال: «لا بل قلتم»، ورددت عليه بأننا لم نقل ذلك، وهنا تدخل طارق عزيز بقوله: «الاستخبارات لم تقل ذلك؛ بل الرئيس»، وحسم الجدال.

وبعد أن تركت القوات العراقية الكويت بالقوة، وواصلت تراجعا غير مسيطر عليه، أوقفت قوات التحالف تقدمها داخل الأراضي العراقية، وأعلن الرئيس الأميركي وقفا لإطلاق النار، وافق عليه النظام فورا، لتوجيه قواته للسيطرة على الوضع الداخلي، لمواجهة انتفاضة شملت كل المحافظات الجنوبية والكردية.. فهل كان معقولا أو منطقيا افتعال الذرائع لغزو الكويت، لمجرد الطمع في ثرواتها، وللتخلص من التبعات الاقتصادية للحرب مع إيران، التي كان ممكنا معالجتها بهدوء مع مرور الوقت؟

وهكذا انتهت أحلام التجاوز والاحتلال والضم بالقوة إلى غير رجعة، فسيادة الدول وقوتها لا تقاس بحجومها ولا بديكتاتورية السلطة وعنفها.