العرب والفرصة الأخيرة

TT

لمرة جديدة، ينطلق القطار العالمي من دون العرب، الذين لن يتمكنوا من حجز مقعد لهم، ولو في آخر قاطرة للحاق بالركب. للأسف، هذه الخلاصة التشاؤمية ليست من توقعات ميشال حايك، أو ليلى عبد اللطيف، التي يمكن أن ينسفها أي منجِّم ثالث، في برنامج تلفزيوني، وإنما هي نتيجة ما يمكن أن يفهمه أي عاقل، يطلع على عشرات الدراسات الاستشرافية العلمية التي تجتاح المكتبات هذه الأيام، في محاولة منها لرسم خارطة النهوض البشري في السنوات العشرين المقبلة.

النشاط البحثي المستقبلي ينشط بحيوية غير مسبوقة، لأن ثمة قناعة بأن العالم «يودع قرنين ونصف قرن من السطوة الغربية المطلقة (أوروبية وأميركية)، ويدخل مرحلة جديدة من التعددية القطبية، بدأت ملامحها تظهر مع الأزمة المالية التي عصفت بالغرب عام 2008». هذا رأي الجيواستراتيجي الفرنسي جيرار شاليند صاحب كتاب «نحو نظام جديد للعالم»، الذي يذكر بأنه مع بدايات القرن الثامن عشر كانت الصين والهند وإيران الصفوية والدولة العثمانية، هي قوى كبرى في العالم، ومن الخطأ تأريخ الصعود الغربي مع اكتشاف أميركا عام 1492. ومما يقوله أيضا أن الزمن الغربي بدأ في الأفول، وأن تلك الأمم التي خبا نجمها منذ 250 سنة تعاود نشاطها، وبذلك فإن الأحادية الغربية تعيش أيامها الأخيرة.

ما يهمنا هنا ليس الأرقام التي تؤكد أن الصين، والهند، واليابان، وروسيا، إلى جانب الولايات المتحدة، ستكون أقطابا كبرى تتحكم في العالم، ولكن ما يلفتنا هو أن دولا كانت حتى الأمس القريب موضع استخفاف العرب، كي لا نقول شفقتهم، ستبرز على الخارطة، بحسب المؤشرات. فثمة تأكيدات أن نيجيريا وإثيوبيا ورواندا وبنغلاديش، ودولا غيرها لم تكن في الحسبان، تسجل صعودا اقتصاديا وتنمويا مطردا، مما سيؤمن لها خروجا آمنا بفضل إرادة سياسية صلبة، وتوجه حاسم نحو تطوير صناعي يعتمد على استثمار المواد الأولية المحلية. الدول العربية غالبا ما لا تذكر في هذه الدراسات، وهي إن خصصت لها أجزاء صغيرة فللتأكيد، غالبا، على أنها ستبقى مستمرة في صراعاتها، مما سيزيدها فقرا وتفتتا طائفيا وعرقيا.

أسوأ من ذلك أن التقرير الأميركي الصادر عن «مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي» منذ ما يقارب العام يرى أن البشرية عموما ستكون أكثر رخاء بحلول عام 2030، وأن 5 مليارات من سكان الأرض، من أصل 8 مليارات، سينضمون إلى الطبقة المتوسطة العالمية، مقابل 1.8 مليار اليوم. أخبار من المفترض أن تثلج القلب، لو كانت للعرب من هذه الوليمة الكونية حصة. أما معرفة أن المنطقة ستغرق في المزيد من العوز، وأن الدول النفطية ستكون أقل رخاء بسبب انخفاض حاجة الولايات المتحدة للنفط والغاز، فهذا يحفز على استجماع الهمم، وطرح التساؤلات.

حتى أفريقيا، التي أدمتها نزاعاتها العرقية، ومشكلاتها الإثنية، فإن عددا كبيرا من دولها سيصبح في قلب دينامو العولمة، في السنوات القليلة المقبلة. فالأرقام الأفريقية تطير صعودا، ولا تتوانى مجلة «ساينس أومان» الفرنسية في عددها الأخير عن استخدام مصطلح «شينديافريك» متحدثة عن «ديناميكية فولاذية ستجمع الثلاثي (الصين – الهند - أفريقيا) معا كمحور صلب، يصعب تحطيمه، يضم ديموغرافيا نصف سكان العالم.

الصين والهند بقوتهما التكنولوجية والصناعية سيتمكنان من تغيير وجه أفريقيا، بحسب المجلة، وذلك بفضل تأمين تشبيكها المعلوماتي مع العالم ومدها بالتكنولوجيا الحديثة بأسعار تشجيعية، وفي المقابل، توفر دول القارة السوداء للدولتين الضخمتين المواد الخام والأسواق، لا سيما أن الوضع السياسي هناك بدأ يميل إلى الاستقرار.

هناك رأي يقول إن لحظتين تاريخيتين غيرتا وجه الأرض، وها نحن منذ سنوات نعيش اللحظة المفصلية الثالثة، التي لن تكون البشرية بعدها كما كانت من قبل أبدا. التغيير الانقلابي الأول سجله الإنسان مع بدء «الثورة الزراعية» النيولينية. كان ذلك 9 آلاف سنة قبل الميلاد، حين انتقل البشري من صيد الحيوانات والأسماك وجمع الأعشاب إلى الزراعة والاستقرار. وبدأ ذلك الإنجاز كما هو معلوم في الهلال الخصيب. أما القفزة الثانية التي حققتها البشرية فيؤرخ لها مع بدء «الثورة الصناعية»، ودخول الآلة حياة الناس في القرن الثامن عشر، وهذا إنجاز أوروبي لا يزال الغرب يتمتع بنعمه.

المفصل الثالث هو الذي نحيا على أعتابه اليوم مع حلول «الثورة المعلوماتية». وهو من السرعة والفرادة بما يجعل قراءة انعكاساته أمرا شديد الصعوبة، والبقاء على هامشه جهلا لا يضاهى.

قيل دائما إن موازين القوى في العالم يعاد تشكيلها بعد الحروب الكبرى. حدث ذلك بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن المنطق الكلاسيكي العتيق ولّى إلى غير رجعة. فجدار برلين سقط بفعل معاهدات واتفاقات، وبتدمير صواريخ لا ببناء ترسانات، وما يحدث الآن هو إعادة ترتيب للقوى الكونية بشد حبال دبلوماسية، فيما الوزن الحقيقي هو لأسواق المال وأحجام الاستثمارات.

ربما أن العالم فهم مقولة جون كيندي «على الإنسانية أن تضع حدا للحرب، وإلا فإن الحرب ستضع حدا للإنسانية». لكن العرب لسوء الحظ لا يزالون يرتعون في جحيم عصبيات داحس والغبراء، ، يتغنون بقول الشاعر: «أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا.. فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا».

الفرصة الذهبية طارت أو تكاد. استمرار التناحر، في هذا الوقت الثمين بالذات، سيضمن لنا مائة سنة إضافية من العار والتخلف. لا تزال أمامنا بضع دقائق للحاق بالقطار. هل نأمل أن يستيقظ العقل؟ هل يمكن لبعض الضمائر أن تتنبه من غفلتها؟ صفارة المغادرة تزعق بقوة، فهل من سامع؟