نحو شرق أوسط «شمولي»

TT

هل ستصنف كتب التاريخ دبلوماسية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تحت عنوانين مفصليين: ما قبل إدارة الرئيس باراك أوباما.. وما بعدها؟

في شرق أوسط تتقلص فيه باطراد رقعة الديمقراطيات وتتراجع فيه فسحة الحريات الفردية، لن تغفل كتب التاريخ عن ذكر دور سياسات الرئيس أوباما، المباشرة وغير المباشرة، في «قلب الطاولة» على التيارات الديمقراطية في المنطقة، عبر تلكؤها في دعم الانتفاضة السورية في مراحلها الأولى، ومن ثم في تأجيج المواجهة المستعرة بين الفصائل المذهبية المتشددة، عبر توددها لإيران في أسوأ ظرف يمر به الشرق الأوسط منذ عام 1948.

من المسلم به أن لا مكان لكلمة «لو» في كتب التاريخ. رغم ذلك يصعب إغفال ما اتفق عليه الكثير من المحللين من أن تدخل إدارة أوباما في النزاع السوري، «لو» تم في مطلعه، وحتى بعد ذلك بسنتين (في سياق انكشاف استعمال السلاح الكيماوي في قصف غوطة دمشق)، لكان وفر على السوريين الكثير من الدم المسفوح، وعلى سوريا الكثير من الدمار الاقتصادي.. وعلى الأسرة الدولية المليارين ونصف المليار دولار التي جمعها مؤتمر المانحين في الكويت لدعم النازحين السوريين.

من حق الرئيس أوباما أن يتخذ كل الإجراءات التي يرى أنها تؤدي إلى تخفيف أعباء بلاده في الشرق الأوسط وتحقق الوعد الذي قطعه على نفسه في حملة الانتخابات الرئاسية عام 2008: إعادة «الأبناء» (الجنود الأميركيين) إلى الوطن.

ولكن من حق أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة أن يسألوه: على من تترك الساحة مفتوحة في الشرق الأوسط؟

وزير خارجيته، جون كيري، لا يخفي رغبته في إشراك إيران في محادثات مونترو المقترحة حول تسوية النزاع السوري. وبقدر ما تعكس هذه الرغبة حجم تورط إيران في النزاع السوري تعكس أيضا تسرعا أميركيا في إشراك دولة تتبنى نظاما شموليا تعمل على تصديره إلى دول الجوار في عملية إعادة الاستقرار إلى المنطقة تغوص في مواجهات سياسية الأبعاد ومذهبية الطابع.

ربما كان هاجس التخلص من أعباء التصدي لـ«القاعدة» أحد دوافع سعي الرئيس أوباما لإشراك إيران، وأذرعها الميليشيوية الشيعية، في محاربة الفصائل الجهادية السنية، الأمر الذي يحصل حاليا في سوريا وإلى حد ما في العراق. ولكن بقدر ما تبدو هذه الاستراتيجية طموحة بمنظور واشنطن، تبدو في منظور الدول المعتدلة في المنطقة سيفا بحدين؛ فهي، من جهة، تؤجج المواجهة السياسية - المذهبية بين السنة والشيعة (كما يحصل في سوريا والعراق ولبنان)، ومن جهة ثانية تشرك دولة لا تخفي سعيها إلى بسط هيمنتها على كامل منطقة الشرق الأوسط في أي معادلة إقليمية جديدة قد يخرج بها مؤتمر مونترو.

يصعب الافتراض بأن واشنطن غافلة عن أن الرئيس الإيراني «المعتدل»، حسن روحاني، لم يعطِ أي دليل عن استعداده للتخلي عن استراتيجية الهيمنة على المنطقة، بل على العكس من ذلك، صعد مستوى دعمه العسكري والسياسي لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا ونظام نوري المالكي في العراق.

ولكن المفارقة اللافتة في «الانفتاح» الأميركي على إيران تبقى في تغاضيه عن تاريخ تعامل طهران مع الفصائل السنية المتطرفة التي تصنفها واشنطن «إرهابية» بامتياز، مثل «حماس» وطالبان وحتى «القاعدة» نفسها يوم كانت مصلحة «الثورة» الإيرانية تقتضي غض الطرف عن مواجهاتها الدامية مع «الشيطان الأكبر» في أفغانستان.

ربما لا تجد إدارة أوباما حرجا من أن يؤدي انفتاحها على النظام الإيراني إلى تهميش الدول العربية بأكملها، وفي مقدمتها الدول المعتبرة صديقة لها في المنطقة، خصوصا أن اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط لم يعد يحتل الأولوية التي كان عليها قبل سنوات قليلة. ولكن إذا لم تؤدِّ التنازلات النووية الإيرانية إلى وقف كامل لبرنامجها النووي العسكري، فقد تصبح الولايات المتحدة نفسها، في عهد ما بعد أوباما، المتضرر الأول من إعادة ترتيب القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.. لصالح الأنظمة المركزية الشمولية على حساب الديمقراطيات الناشئة في المنطقة.