الواجب وخيانة الواجب

TT

كانت سويسرا بلدا فقيرا جدا، اضطر أبناؤه إلى كسب قوتهم من التطوع كمقاتلين مرتزقة لكل من يدفع. اعتادت الحكومات الغربية الاعتماد عليهم في شتى المهمات، ومنها حراسة القصور الملكية. استمر ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر، وإلى الآن في الفاتيكان. مرتزقة بروتستانت يحرسون معقل الكاثوليك. اعتمدوا عليهم لشجاعتهم والتزامهم بالواجب.

ذهبت لزيارة بحيرة لوسن فلفت نظري فيها نصب تذكاري ضخم يخلد ذكرى مائتي مرتزق سويسري قاتلوا حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم دفاعا عن لويس السادس عشر وقصر فرساي الذي هاجمه الثوار إبان الثورة الفرنسية.

لم يبنوا هذا النصب التذكاري لمجرد تخليد ذكراهم وإنما كإعلان تجاري لكل السياح ورجال الأعمال: اعتمدوا على الماركة السويسرية في كل شيء: الساعات السويسرية، الأدوية السويسرية، الشكولاته السويسرية... والمرتزقة السويسرية.

جرني التمثال لتذكر شيء آخر. عندما قامت ثورة 14 يوليو (تموز) في العراق، كانت الدولة قد عهدت بحراسة البلاط وقصر الرحاب إلى فوج الحرس الملكي. لا أشك في أن الأمير عبد الإله قد خابر الفريق نوري جميل، قائد الحرس الملكي، بأن يهب ويأتي بالفوج لرد الثوار وحماية القصر.

ركب سيارته وذهب للموقع يتلصص على الموقف. وعندما أدرك أن المهاجمين كانوا قوة لا يستهان بها، انضم إليهم! ولم يتحرك جندي واحد من الحرس الملكي لأداء واجبه. وبذلك، تمكن الثوار من إبادة كل من كان في القصر، بمن فيهم النساء، في مجزرة شنيعة.

بدلا من قيام عبد الكريم قاسم كضابط بإحالة الفريق نوري إلى المحاكمة بخيانة واجبه العسكري، كافأه بتعيينه سفيرا للعراق في واشنطن! فعل مثل ذلك لكل الضباط الذين أقسموا على القرآن الكريم مثلهم بولائهم للعرش ثم حنثوا بيمينهم وخانوا واجبهم وانقلبوا على سيدهم.

كافأهم جميعا بمناصب رائقة. أعطى بذلك درسا للجميع بأن خيانة الواجب تجارة رابحة. وكان عبد الكريم قاسم أول من دفع ثمنا لهذا الدرس في انقلاب 1963. ما إن هاجمه البعثيون ورجحت كفتهم، حتى هرب العساكر وتخلوا عن حمايته. لم يبق معه غير نفر قليل من أقاربه الضباط. اعتقلوهم وأعدموهم لقيامهم في الواقع بواجبهم العسكري.

في حرب القرم، هرب ضابط روسي وسلم للإنجليز ليعطيهم ما عنده من أسرار الجيش الروسي. جاءوا به إلى الجنرال كاردغان، القائد البريطاني. نظر في وجه الضابط الروسي باحتقار: «جاسوس؟! تخون بلدك! ستشعر أمك بالعار عندما تسمع بك. اخرج من هنا». وطرده دون أن يتسلم منه المعلومات.

أنا واثق لو أن الأمير عبد الإله عهد بحماية القصر والبلاط إلى فصيل من المرتزقة الأجانب، إنجليز أو سويسريين، لما سقط النظام ولا تعرض العراق لكل هذه المصائب التي مر بها.

وهذا أمر جلل، خطر في ذهني وعالمنا العربي يمر بهذه المحن والاضطرابات. هل يأتي زمن تجد فيه بعض الأنظمة أن من الأفضل لسلامتها واستمرار حكمها أن تعتمد في حراستها وأمنها على أفواج من المرتزقة الأجانب، سويسريين أو ألمان أو يابانيين، يقومون بالمهمة بتكلفة أقل وكفاءة أكبر؟