أسئلة معلقة

TT

في كل مرة يتجدد فيها الحديث عن «ميثاق العمل الوطني» البحريني، يتجدد أيضا خزّان الذكريات الكثيرة التي أحاطت بتلك الفترة المتورّدة من تاريخ هذا الأرخبيل الواقع في الوسط من خليجنا العربي. ذلك لأن هناك الكثير من الأمور التي أحاطت بهذا الميثاق الذي يُطرح لأول مرة على الناس للاستفتاء في هذه المنطقة من العالم، ليمثل منهاجا للعمل الوطني، وميثاقا بين الناس وحكامهم.

فبعد أسابيع قليلة ستتجدد ذكرى مزدوجة في البحرين: الأولى تلك التي تعلقت بميثاق العمل الوطني، في 14 فبراير (شباط) 2001، وهي الفترة التي انتقلت فيها البحرين (قولا وفعلا) من حال إلى حال، والتف الناس من كل الأطراف والأطياف حول هذا المشروع الذي كان مقدرا له أن يخرج البلاد من حال الجمود الذي عمّ كل شيء، بما في ذلك الجمود السياسي، والاجتماعي، والنفسي، بل وحتى الاقتصادي.

أما الذكرى الثانية، فإنها تجيء في التاريخ نفسه، وليس مصادفة، ولكن تفصلها عن الأولى 10 سنوات تامّات، وهي ما حدث في البحرين من حراك كبير، تداعت أحداثه، وآلت إلى ما آلت إليه من أمور يتذكرها القاصي والداني، ولا تزال البحرين تعيش آثار الفترة الثانية محاولة مسحها أو إزالتها حتى تمضي قدما.

فلقد جاء طرح «ميثاق العمل الوطني» في ظرف تاريخي عربي قلّ أن يتكرر. إذ توالى - وفي فترات متقاربة جدا لم تتجاوز السنة الواحدة - غياب أربعة حكام عرب بقوا لسنوات طويلة في سدة الحكم. إذ غيّب الموت الملك الحسين بن طلال (7 فبراير «شباط» 1999) الذي حكم الأردن في أدق المواقف وأعصبها مدة 46 عاما، وقاد سفينة بلاده بين الأمواج المتلاطمة وجلاميد الصخور. وتبعه أمير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (6 مارس «آذار» 1999)، الذي حكم البحرين 38 عاما، وانتقل بها من الانتداب البريطاني إلى الاستقلال. وتلاهما في الغياب الملك الحسن الثاني (23 يوليو «تموز» 1999)، وكان قد حكم بلاده أيضا مدة 38 عاما واجه فيها الكثير من التحديات الاقتصادية والسياسية في عالم متغيّر ومتحول. ولم تمر سنة، حتى انتقل الرئيس السوري حافظ الأسد إلى بارئه (10 يونيو «حزيران» 2000) بعدما حكم 28 عاما، فتسلم من بعدهم جيل من القيادات الشابة زمام الأمور، وبدأت التوقعات تتأرجح فيما إذا كان سيحدث هؤلاء القادة تغييرات في بلادهم، أم سيجري السير على نهج الآباء.

من بين الدول الأربع، كانت التغيرات في البحرين هي الأكثر دراماتيكية، إذ تسابقت فيها الإرادة الرسمية والإرادة الشعبية في الإطاحة بالقوانين المعيقة لممارسة الحريات، ومن بينها عودة الحياة الديمقراطية بعد توقف دام 27 عاما، وإنشاء مجالس بلدية يُنتخب أعضاؤها انتخابا حرّا، وإنشاء محكمة دستورية، وإطلاق العنان للجمعيات السياسية أن تتكون في خطوة قيل إنها تمهّد لوجود الأحزاب السياسية، لتسبق البحرين بذلك حتى دولة الكويت صاحبة السبق البرلماني على المستوى الخليجي. أما على المستوى العربي، فظلت هذه التجربة في عامها الأول محل تطلعات، ومضرب المثل لما يمكن أن يفعله التواصل بين قاعدة الهرم وقمّته، والعكس.

وعلى عكس ما حدث بُعيد حرب «تحرير الكويت» في 1991، حيث ضغطت الولايات المتحدة على بعض الدول الخليجية لكي تبدأ في وضع أسس حياة ديمقراطية فيها، لتتمكن أميركا من أن تقنع شعبها بأنه إن وقع شيء مشابه من قريب أو بعيد لما حدث للكويت، فإنها إنما تدافع عن أنظمة ديمقراطية، فراحت الأنظمة تبحث عن صيغها الخاصة في البحث عن طريق الديمقراطية المتناسبة معها؛ فإن ما حدث في البحرين يمكن عدّه «مبادرة» سبقت حتى أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 ببضعة شهور، وهذا من حسن حظ التجربة التي أنضجت على نيران هادئة، بعيدا عن الضغط أو التبرير أو الإنكار والتبرؤ مما حدث.

وإن كان ليس من المستحب أن يشبه اليوم البارحة، لأنه يعني أن شيئا لم يتغير، وهذا بحد ذاته خسران مبين، ولأن المنطق يقول إن اليوم يجب أن يكون أفضل؛ فنحن لا ندري إن تعلمنا شيئا من الديمقراطية التي ولجناها ونحن لسنا ديمقراطيين في الأساس، وهذا إن كان ينطبق على استعداد الأجهزة الرسمية، فهو ينطبق بالحرفية ذاتها على التنظيمات السياسية الأهلية، سواء أكان في الدخول نفسه، أم في الممارسة كذلك.

هل كان لزاما على اللاعبين السياسيين الاستشهاد في كل شاردة وواردة بـ«الديمقراطيات العريقة»، بينما لا تزال التجربة البحرينية من ضمن «الديمقراطيات الرضيعة»، مما رفع سقف التوقعات أكثر من اللازم، وأحدث سلسلة متلاحقة من خيبات الأمل التي تحولت إلى قنوط في بعض مفاصلها الزمنية، وانتهت إلى ما انتهت إليه؟

وعلى الرغم مما جاء في نتائج تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق (المعروفة شعبيا بـ«لجنة بسيوني») بعد ما حدث في فبراير 2011، فإن الأطراف المذكورة في التقرير، لا تزال تصر على أنها على الحق، وأنها لم تكن مخطئة في كل ما جرى. وحتى جولات «الحوار الوطني» تباطأت عجلاتها حتى توقفت نهائيا، وهي المعوّل عليها أن تصفّي ملفات 2011 من أجل انطلاقة جديدة في العمل الوطني.

إذا كانت هناك أكثر من إجابة متناقضة تماما عن أسباب فقدان الثقة التي توفرت في 2001 لإنجاح «الميثاق»، فالسؤال الأهم: كيف يمكن أن تُستعاد هذه الثقة؟

* كاتب صحافي من البحرين