فيردي يغني

TT

كثيرا ما نستغرب من جنوح بعض الغربيين للتعاطف مع إسرائيل وتجاهلهم لحقوق الفلسطينيين. يجهل أكثرنا أنه يوجد في التوراة والديانة اليهودية ما يشكل جزءا من تراث الغرب وثقافته. العهد القديم (التوراة) جزء من المسيحية الغربية، وطقوس كنائسهم تقوم على درسين؛ الأول تلاوة من العهد الجديد (الإنجيل)، والثاني تلاوة من العهد القديم الذي يتضمن الكثير من تاريخ اليهود في فلسطين وارتباطهم بها. وأصبحت أقاصيص الأنبياء وأشعارهم تشكل جزءا مهما من الثقافة الغربية في آدابها وفنونها وموسيقاها.

كثيرا ما يستشهد بعض الإعلاميين بالروايات والقصائد التي كتبها الغربيون وعبروا فيها عن حنين اليهود لأرض الميعاد. كثر ذلك في القرن التاسع عشر، وأسهم في إذكاء الروح الاستعمارية. خطر لي ذلك وأنا أشاهد الأوبرا الشهيرة «نابوكو» (نبوخذ نصر) لفيردي (مؤلف أوبرا «عايدة»). ألفها في 1845، أي عند تململ الحركة الصهيونية. صورت اجتياح البابليين للقدس وأسرهم لسكانها اليهود وسعيهم لإعادة بناء كيانهم.

يشكل وقوع اليهود في الأسر وسوقهم كعبيد إلى بابل ركنا أساسيا من التراث اليهودي. وترد في التوراة أنشودة طالما تغنى بها قادة تلك الحركة.

انطلق فيردي من تلك الأنشودة وأعاد صياغتها بهذه الكلمات:

حلقي أيتها الأفكار على أجنحة ذهبية

اذهبي وحطي على تلك السفوح والهضاب

حيث تهب رائحة عطرة، ناعمة معتدلة

نسائم بلدنا الساحرة

وحيي ضفاف الأردن وأبراج صهيون الساقطة

آه! يا بلدي الضائع

عصر فيردي عواطفه الثورية وأحاسيسه الموسيقية في هذا النشيد الذي أصبح من أعظم ما ألفه وأعطاه المكانة الأولى في دنيا الأوبرا. إنه نشيد رهيب في خلجاته وتعبيره عن معاناة المستعبدين وتعطشهم للحرية. إنه القطعة الأوبرالية الوحيدة التي كثيرا ما أصر السامعون على سماعها ثانية وثالثة. وهي دون شك من أروع ما يمكن للإنسان أن يسمعه. استولت على قلوب الإيطاليين وراحوا ينشدونها خلال نضالهم من أجل الاستقلال والوحدة. وعندما توفي فيردي وشيع جثمانه في شوارع روما، انطلقت الجماهير من الجانبيين تودع موسيقارها بهذا النشيد. وكان عملا واحدا من مئات الروائع الفنية التي مهدت الطريق للحركة الصهيونية.