الرقم الصعب في المعادلة التركية

TT

حالة التوتر وتبادل الاتهامات بين حكومة رجب طيب إردوغان وحركة فتح الله غولن انتقلت إلى مرحلة جديدة من المواجهة، بعد أعوام من التقارب السياسي والتنسيق المشترك الذي مكنهما من الإطاحة بأهم رموز الأتاتوركية والعلمانية المتشددة في مؤسسات الدولة.

التوصيفات التي أطلقها رجب طيب إردوغان أمام كتلته النيابية قبل أيام حول من يستهدف حكومته وتركيا منذ 17 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبينها «المنظمة السرية الخائنة» و«العميلة»، ختمها بإقحام «حركة الحشاشين» في قلب المعادلة السياسية، وهي، كما هو معروف، مجموعات محسوبة على الإسماعيليين أسسها حسن الصباح في القرون الوسطى وكانت استراتيجيتها تقوم على إنزال الرعب في صفوف خصومها ومنافسيها، ولم يكن لها همّ سوى القتل من أجل القتل، كما يقول إردوغان.

عبارته تحت عنوان: «قريبا سيظهر إلى العلن أي نوع من الحكم الفاسد بنوا»، وحديثه حول مدى «خطورة هذا الفيروس المتفشي في الجسم»، يؤكدان أنه لم يطلق اتهاماته هذه جزافا، فها هو يفجر قنبلته في وجه خصوم اليوم ويذكرهم بـ«قلعة الموت (آلاموت)» و«عش النسور» في جبال فارس، قاطعا الطريق على أية محاولة باتجاه الهدنة والتهدئة والمصالحة، ومذكرا أنه يريد إنزال الضربة القاضية بجماعة غولن، مما يعني استحالة عودة العلاقات إلى سابق عهدها، وأن الثمن لا بد أن يدفعه أحد الطرفين.

جماعة كانت أهم الشخصيات السياسية التركية ضمانتها وكفيلها داخل تركيا وخارجها لما تقدمه من خدمات في أكثر من مجال، تتحول بين ليلة وضحاها إلى «فيروس».

وتشبيهات تذكر بجماعات الحشاشين التي اتخذت من القلاع والحصون منطلقا لنشر دعوتها واللجوء إلى التصفيات الجسدية عند الضرورة مما تركها في مواجهات مستميتة مع السلاجقة والعباسيين والأيوبيين إلى أن أطاح بها المغولي هولاكو في منتصف القرن الثالث عشر.

البعض وصفهم بأنهم أنصار للحرية، لكن آخرون أصروا على أنهم زمرة خارجة عن القانون لم تتردد في القتل والتصفية الجسدية لخصومها.. بعضهم رأى فيهم من يدافع عن عقيدته، لكن كثر هم من نعتوهم بأنهم جماعات متطرفة متشددة لا تقبل الولاء سوى لمن وعدها بمفتاح الجنة.

إردوغان يقول إننا لن نستسلم بهذه البساطة لمن يبني الدويلة داخل الدولة رغم كل هذا التوغل والاختراق من كل صوب، لكنه وبالمقياس العصري للأمور يعرف أنه يغامر بإغضاب الطريقة الإسماعيلية نفسها التي تنشط في أكثر من بلد، وتملك عشرات المؤسسات التعليمية والخدماتية، فيضع الجماعتين أمام تصور واحد بقصد أو دون قصد.

إردوغان يقول للجماعة والأتراك والرأي العام الدولي:

- إنه يعرف أن الحشاشين بنوا دويلتهم المستقلة داخل الدولة الأم في الجبال والقلاع الحصينة التي قاومت لسنوات لكنها سقطت في النهاية، وأن المصير نفسه سيكون بانتظار من يتآمر على الدولة التركية.

- إن جماعة غولن لا تقل قوة ونفوذا وانتشارا عن الإسماعيلية الحديثة، وإن التشابه كبير جدا في الاستراتيجيات والتمدد والانتشار ومنظومة العلاقات الواسعة.

- إن مسألة إعطاء الأولوية للقيادي الروحي الذي يدير شؤون الجماعة ومصالحها التجارية والمالية كما هي الحال اليوم في مؤسسات الإسماعيليين، تتشابه مع بنية جماعة غولن نفسها، والدليل هو التسريب الصوتي الأخير الذي ينقل تفاصيل كثيرة حول حديث غولن في مسائل تجارية ومالية محلية وعالمية بالغة الأهمية تعني الجماعة.

إردوغان ليس أول من ابتكر فكرة إقحام الحشاشين في المشهد السياسي التركي اليوم، فقد استخدمها قبله الباحث التركي إسماعيل نجار عام 1998 عندما كان يتحدث عن قوة جماعة غولن وتمركزها. لكن هذا التشبيه لم يلق الرواج ولم يجد الأهمية بسبب ظروف وأحداث 28 فبراير (شباط) ونفوذ المؤسسة العسكرية وقتها، فاستعار إردوغان المصطلح مجددا مستهدفا هذه الجماعة التي عملت لعقود بصبر وتعقل وتحالفت معه ليساهم هو في إيصالها إلى ما هي عليه اليوم.

بولنت تزجان، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، يتساءل: «إردوغان وجه دعوة لفتح الله غولن قبل سنتين من أجل العودة إلى تركيا وإنهاء الغربة وطي صفحة الماضي.. ألم تكن (الخدمة) آنذاك عصابة حشاشين، أم إن إردوغان كان يدعوه إلى الوطن لتصفية الحسابات معه؟».

ومع أن أكرم دومانلي، رئيس تحرير صحيفة «زمان» الناطقة باسم الجماعة، يقول إن «هذه التوصيفات هي من أجل إخافتنا وردعنا» مكتفيا بالدعوة لإيقاف هذه الذهنية عند حدها، فإن الأكاديمي ممتاز آر تورك أونه، أحد أهم أقلام الجماعة، يشير إلى أن سيف العدالة سينزل وبعض الرؤوس ستسقط أرضا.

لا تطبيق لعقوبة الحكم بالإعدام في تركيا ولا قطع للرؤوس فيها بقرار قضائي.. لكن إردوغان يعرف حجم الخطورة التي تحدق به، خصوصا بعد مواقفه الأخيرة، وهو تسلم حتما الرسائل الكثيرة التي وردت إليه بشكل مباشر وغير مباشر، وربما هذا هو السبب الذي دفعه للدخول في مواجهة مكلفة من هذا النوع.

إردوغان يتحدث عن سلوك الحشاشين وتصفياتهم لأهم رموز الدولة السلجوقية وقياداتها التي وقفت في وجههم وحاربتهم، لكننا لا نعرف ما إذا كان على معرفة بالروايات التاريخية الكثيرة التي تقول إن أقرب حراس صلاح الدين الأيوبي الذين وثق بهم لسنوات كانوا من جنود «شيخ الجبل» وإنهم وصلوا إلى داخل خيمته وتركوا الخناجر الملوثة بالدم فوق وسادته مذكرين بقدراتهم وقوتهم ما إن تصدر إليهم الأوامر.

باسم الله أقبل تحية.