مسؤولية «التطرف»: المفجّر والمنظّر والمبرّر!

TT

يعود المشهد السعودي إلى الجدل مجددا حول مسؤولية الدفع بشباب في مقتبل العمر نحو مناطق التوتر والقتال.. يتكرر هذا المشهد منذ الثمانينات وبدايات تشكل ظاهرة «المقاتلين» العابرين للحدود بعد انتهاء تجربة أفغانستان وتشكل فكر «القاعدة»، أظهرت تحولات جذرية في علاقة الإسلام السياسي ومن ورائه «الصحوة» برموزها بهذه الظاهرة من التأييد المبكر إلى اعتبار أن ما يحدث خديعة سياسية كبرى للتخلص من الشباب المجاهد، إضافة إلى أن أسلوب التغيير أو المشروع الانقلابي بين الفريقين مختلف؛ الأول يعتمد على الهرم المقلوب، البدء بتغيير السلطة بشكل عمودي ومباشر، بينما يسعى الإسلام السياسي إلى بناء قاعدة جماهيرية قادرة على التغيير والانتشار الأفقي، ومن هنا كان كل من الطرفين ينظر إلى الآخر على أنه يقود بدور تكاملي في الحرب على الغرب والأنظمة المتحالفة معه، وكانت لحظة الاقتتال بين الأحزاب في أفغانستان هي لحظة انفصال المدارس السلفية التقليدية عن المشهد وبداية الصدام مع الصحوة و«القاعدة» الذين تقاسموا آليات العمل، لكنهم اختلفوا في الوسائل ليتحدوا مجددا مع حرب الخليج في ضرورة التغيير مع اختلاف الطرائق، ولاحقا صعدت قوى الصحوة في مرحلة ما بعد حرب الخليج، بينما تراجعت «القاعدة» لتلم شتاتها وتنفجر مجددا بعد أفول الصحوة واقتراب المرحلة الثالثة، وهي الإرهاب المعولم الذي اكتمل في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لينقسم المشهد إلى ثلاثة تيارات رئيسة: الخطاب الديني التقليدي المضاد للصحوة ولـ«القاعدة»، والخطاب الصحوي - الإسلام السياسي المبرر لـ«القاعدة» والمضاد للمدرسة السلفية التقليدية، و«القاعدة» المنفصلة عن الإسلام التقليدي والمكفرة لرموزه، والمتحالفة مع الإسلام السياسي في الرؤية والمختلفة في آليات العمل، فهم يحتكمون إلى النظرية ويختلفون في آلية العمل: تحضر حاكمية سيد قطب والولاء والبراء ودار الكفر والإيمان.. إلخ، ولكن يرى «القاعديون» أن الغرب والأنظمة لا يفهمون إلا لغة القوة، بينما يرى الإسلام السياسي، أن المواجهة خطأ استراتيجي، وأن المشروع الانقلابي الذي يستهدف تكوين قواعد اجتماعية مؤثرة من شأنها اختراق كل مؤسسات الدولة وصحونتها، ثم يتم الضغط على الأنظمة عبر «التبرير» للإرهاب بأن الحالة السياسية هي السبب في محاولة إلى استثمار إرهاب «القاعدة» للضغط على الأنظمة، ولو عبر إظهار الاعتدال ومفاوضة الإرهابيين وحتى التحول إلى «وسطاء»، وربما تتبع موقف «القاعدة» ذاتها من رموز الصحوة يؤكد ترسيمة ما بعد 11 سبتمبر التي حددت أضلاع مثلث «العنف المسلح». فالمفجرون، وهم غالبا شباب في بحر العشرين، لم يخوضوا تجربة الإسلام السياسي، لكنهم تأثروا بخطابه والمناخ العام المضاد لمفهوم الدولة، ووضع «المنظرين» وهم قيادات القاعدة الشرعية، وفي مجملها هي مرتدة من تجربة الصحوة والإسلام السياسي بدءا من أبو مصعب السوري، ومرورا بأبو محمد المقدسي، وصولا إلى أبو قتادة وأبو بصير والقيادات المتأخرة التي شنت على رموز الصحوة الحرب بسبب مواقفها البراغماتية والمصلحية من المواجهة مع الأنظمة، إلا أن الرؤية التكاملية خففت من تلك الحرب الشعواء باعتبار أن الإسلام السياسي باع المجاهدين بثمن بخس وهو «السلطة».

ما حدث بالضبط أن حرب الخليج أسهمت في انفصال «باطني - جواني» بين الإسلام السياسي و«القاعدة» سببه اختلاف الوسائل مع اتحاد الغايات، إلى أن جاءت لحظة 11 سبتمبر وقررت «القاعدة» المواجهة العالمية والتحول إلى ظاهرة عابرة للقارات، فانفصل عنها الإسلام السياسي حفاظا على مواقعه الاجتماعية ومكتسباته على الأرض ونفوذه في الكثير من المؤسسات والمواقع، لكنه أمسك بخيط «التبرير» مع كل حادثة إرهابية لتذكير الأنظمة السياسية بأنها تحصد خطيئتها السياسية بعدم إشراك الإسلام السياسي وتقديم نفسها كبديل للإسلام المعتدل اعتمادا على قاعدة جماهيرية وضمور وضعف أصحاب التيار السلفي التقليدي في مواجهة «القاعدة» لأسباب تتصل بملفات عقائدية وفقهية ما زالت عالقة بين الأطراف جميعها لم يتم حسمها على مستوى النظرية على الأقل حتى الآن، وهذا جزء من ترهل الإسلام السني المعاصر بسبب غياب المرجعية لأسباب ليس هذا محل بحثها.

صحيح جدا أن من الصعب تحميل «الإسلام السياسي» والصحوة برموزها وقادتها مسؤولية قانونية على ذهاب شخص بعينه إلى القتال لأن «القانون» الذي لا يحمي المغفلين والمغرر بهم، يحمي المنظرين والمبررين الذين يعرفون قواعد اللعبة، فينتجون خطابين الأول للاستهلاك الإعلامي، والثاني يعرفه الأتباع والخواص، وهذا أمر واضح في بيانات وخطابات رموز المرحلة بعد انفصال حرب الخليج، لكن المسؤولية الشرعية والدينية والأخلاقية تطالهم في التبرير لقاعدة «التكفير والتفجير والتنظير» ومحاولة تصوير أنهم مجرد ضحايا للأنظمة السياسية والمجتمع الدولي، في حين أن «القاعدة» هي انشقاق صغير في جسد الإسلام السياسي والصحوة بسبب استعجال النتائج والملاحقة الأمنية وتشكل ظاهرة «المقاتلين العابرين للحدود»، لكنها تدين في تراثها وأفكارها وتصوراتها العامة للذات والآخر والمجتمع لمرحلة التأسيس للإسلام السياسي والصحوة الدينية التي شملت المنطقة برياح التغيير.

رد فعل رموز الصحوة ما زال يتجه نحو الإنكار والبحث عن تصريحات قديمة لحظة الانفصال الكبير بين الجهاديين والصحويين والتقليديين، بل ويتجه نحو التصعيد والمحاكمة وطلب الاعتذار في حين أن الأولى بهم التفكير في مآلات الشباب ، لماذا نقرأ بيانات وفتاوى وتغريدات تخص قضايا شخصية جدا فقط لأنها في سياق مناكفة الأنظمة السياسية والحكومات، بينما وصلت الحالة الدينية إلى هذا الكم من الفوضى في الفتاوى والمواقف والأحزاب والحرب الجديدة بين المجموعات المسلحة من دون أي مواقف حقيقية وصريحة لنقد أخطاء المرحلة السابقة.

[email protected]