غطرسة القوة

TT

التفسير اللغوي للحضارة هو أنها حالة انتماء لمجتمع قطع أشواطا كبيرة في الفكر والثقافة والتنمية فتحقق له التقدم في العلوم والفنون والذوق الراقي. وفي مراحل التقدم تتطور المؤسسات الاجتماعية والسياسية وحكم القانون.

التاريخ يشهد بأن المجتمعات التي سعت نحو الحضارة والتنمية وحققت ما سعت نحوه ما كانت لتحقق ما حققت إلا بأساليب أقل ما توصف به هو أنها أساليب همجية، ومنها الغزو والاستعمار وتجارة الرقيق من خطف وبيع واستغلال وإذلال العبيد لبناء حضارة مثل حضارة الجنوب الأميركي إلى أن اندلعت الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر.

حدثان شغلا تفكيري هذا الأسبوع؛ أولهما عرض فيلم أميركي من إخراج مخرج إنجليزي هو ستيف مكوين عن حياة العبيد في الولايات المتحدة. عنوان الفيلم الذي ترشح لجائزة الأوسكار هو «12 عاما في العبودية». والقصة حقيقية ومضمونها أن أميركيا من أصول أفريقية عاش حرا ودرس المحاماة في الولايات الشمالية وتزوج وأنجب. وفي يوم أسود أعد له الجنس الأبيض وبقايا من عنصرية الولايات الجنوبية، تعرض المحامي الحر للخطف وحمله الخاطفون إلى مزرعة من مزارع الجنوب يمتلكها جنوبي تفوق نوازعه الإجرامية كل أشكال الحضارة التي ظل سكان الجنوب ينعونها بعد انتصار الشمال الليبرالي في الحرب الأهلية.

وفي الأسر الذي استمر 12 سنة تعرض المحامي الأسير لصنوف من الامتهان والقسوة يشيب لها الولدان.

أما الحدث الآخر فكان خطابا للرئيس الأميركي باراك أوباما ذي الأصول الأفريقية، لم يخرج عن كونه اعتذارا مقنعا عن التجسس على رؤساء الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا، وتبرير التجسس على هواتف عباد الله حول العالم خوفا من الإرهاب.

وهو أيضا خطاب يطالب الشعب الأميركي بتفويض للتصديق على تلك الأفعال لأنها تخدم الأمن القومي الذي يمنح المواطن اطمئنانا، من دون أن يخطر على باله أن التجسس تطاول على الحريات والخصوصيات لتحقيق مكاسب أميركية تؤمن فرصة متجددة للهيمنة والسيطرة وتوقيع العقوبات، وطز في المكتسبات الحضارية.

بعد سماع الخطاب بت ساهرة أضحك تارة ثم يتملكني الرعب والغضب تارة أخرى. ضحكت حين تصورت أن شبكات التجسس ترصد كل شيء حتى الثرثرة والفضفضة بين امرأة وأخرى.. ثم ارتعبت حين أدركت أنني كثيرا ما أعترف لصديقاتي هاتفيا أنني أدعو الله يوميا ألا يتوفاني إلا بعد أن تهزم إسرائيل. وكثيرا ما أقول إن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة.

هل تصنفني خزينة المعلومات الأميركية إذن عنصرا إرهابيا عند اللزوم؟

حين تسير في شوارع المدن الغربية الكبرى لا بد أن تبهرك مظاهر التحضر متمثلة في النظافة والنظام ومظهر الأفراد وانضباط وسائل المرور وفن عرض البضائع وانتشار المسارح ودور العرض السينمائي والمكتبات والقاعات الموسيقية. وبتلك المقاييس لا بد أن مدن ألمانيا النازية كانت متحضرة. ومع ذلك تخلى جنود هتلر عن خلفية الحضارة الإنسانية تماما وهم يزجون بجحافل اليهود إلى الأفران، ثم يعودون لنبش التراب بحثا عن سن ذهبية أو خاتم زواج يدر عليهم بضعة ماركات.

وحين توفي آرييل شارون قرأت جانبا مما كتب عنه بعد وفاته وهالني أنني اكتشفت أنه من مواليد فلسطين لأبوين ساعدهما الانتداب البريطاني على الهجرة من روسيا إلى فلسطين. أقول هالني الاكتشاف لأن شارون في النهاية تخلى عن كل مظاهر التحضر الإنساني بالسطو والقتل والتنكيل بسكان القرى الفلسطينية الذين كانوا جيرانه. وهنأه الشعب الإسرائيلي على تلك الأفعال التي أمنت لهم فرصة الاستيلاء على مزيد من الأراضي تحت مظلة حقوق المنتصر. ولم يفكر أحد في العالم أن القوة غاية، وأن المهم ليس أن تكون قويا بل كيف توظف القوة بعد أن تتحقق لك.

والمعضلة الفكرية التي أواجه حاليا هي الخوف المتصل من غطرسة القوة وسطوة المال . أخشى أن يكون التحضر قشرة خارجية تسقط عند اللزوم بذرائع براغماتية، وأن المسألة لا تعدو كونها كبشة فلوس تنتزع بكل الوسائل، همجية كانت أم سلمية، لبناء شوارع عريضة وقصور منيفة ومحلات تجارية جذابة وسن قوانين لحماية المصالح والممتلكات.