نصير شمة.. الحبيب المهجور

TT

إنني من عشاق الموسيقار وعازف العود العراقي الذي احتضنته مصر منذ أعوام طويلة، نصير شمة. لديّ تسجيلات كثيرة من عزفه أهداها لي منذ سنوات. ولكنني قلما أستمع إليها، فأنا أستمع للعزف الشرقي المنفرد كخلفية لقيامي بأعمالي اليومية، مثلا أقرأ أو أكتب أو أكوي ملابسي أو أتناول طعامي. أقوم بذلك والمسجل يعزف والموسيقى ترن وتطنطن. إنها ما يسميه الغربيون بموسيقى وأنت تشتغل «Music while you work».

وهذا أسلوبي مع الخطب السياسية للكثير من المسؤولين والمعلقين على الراديو مما يمكن تسميته على هذا الغرار بجعجعة وأنت تشتغل. تكوي ملابسك وتساعد ست البيت بغسل الصحون وتنظف حذاءك بينما يسترسلون بالكلام الفارغ دون أن تعبأ بما يقولون، فأنت تعرف أنه لا يعني شيئا ولا يقصدون العمل به. هكذا هو أمري مع الكثير من موسيقانا. إنها موسيقى وأنت تعمل، وأنت تأكل، وأحيانا وأنت تنام. وهذا أمر عجيب! فالكثير مما ينتجون ويغنون في هذه الأيام يبعث السامع للنوم رغم كل ما فيه من ضجيج وصراخ.

بيد أنني أجد عزف الموسيقار نصير شمة لا يسمح لي بذلك، فهو يفرض عليّ التوقف عن أي شيء أعمله لأجلس وأستمع وأركز على ضربات أوتاره وأنغامها وما يقوله فيها، ففي عزفه الكثير من الفكر والقول. ولهذا لا أستمع له كثيرا لأنه يوقفني عن القيام بأشغالي، وشغل الصحافي مثل شغل المرأة الوالدة لا ينتهي. وهذا ما جعلني أتحاشى عزف مقطوعاته وأهجر السماع له. هل سمعتم بالحبيب المهجور؟ هذا هو.

يفرض عليّ نصير شمة الاستماع له بتركيز وبكامل قواي الفكرية والعاطفية. وله في ذلك أساليب وبدع. إنه يمعن في التباين (كونتراست) بين النوتات فتهبط ضربات العود حتى لا تكاد تسمعها فتفتش عنها، وقد تسرع للمسجل لترفع الصوت ولكنك لا تباشر بذلك حتى يضربك بصفعة داوية من النغم تثيبك إلى رشدك. ها هنا أنا. اجلس واستمع. إنه جزء من المزاج العراقي في التطرف والمفاجأة.

وكجزء من هذا التباين، تراه يثيرك بصمته بين النوتة والأخرى، بدعة السماع، فلا تملك غير أن تنتبه وتنتظر ماذا سيقول. تشعر بذلك بعد أن يكون قد استولى على مشاعرك بالحنان والأحاسيس الشجية التي تحملها أنغامه ومؤلفاته التي تتميز بها موسيقاه وكثيرا ما استوحاها من الموسيقى الدينية للمتصوفة، مما نشأ عليه في أسرته الفيلية في منطقة الكوت من شرق العراق وما تعلمه من كبار العوادين في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد من أمثال منير وجميل بشير وسلمان شكر وسواهم من المجددين، تغمدهم الله برحمته الواسعة.