جنيف.. وعيد الجلاء!

TT

منذ اللحظات الأولى لظهور وفد بشار الأسد في مؤتمر «جنيف 2» المنعقد في مدينة مونترو السويسرية، أيقن الناس أنهم أمام مجرمين بامتياز، واسترجعوا كل الأسباب التي تجعلهم يكرهون هذا النظام الدموي المجرم. فيبدو أن وليد المعلم اعتقد أنه يخطب في حزب البعث فرع جنيف، فأسهب وأطال وغرّد بكلمات مطاطة، كعادة البعثيين في النظام السوري، يرددون كلاما بلا معنى وبلا مضمون ولكنه «عبث كلامي» فهمه كل الناس، وملوه وسئموه، وكذلك كان الأمر بالنسبة «لشكل الوفد» الذي كان غارقا في الرموز والإشارات الموجّهة للغرب، فالوفد الذي قدم نفسه كوفد يمثل دولة علمانية كان من ضمنه قسيس من الكنيسة الشرقية للروم الأرثوذكس مدججا بزيه الديني كاملا، ويُضاف للقسيس جوقة منتقاة من رموز الطوائف السورية الأخرى، لونا الشبل بنت جبل الدروز بصبغة شعر مبالغ في لونها لمحاكاة الغرب أيضا، وبثينة شعبان ابنة طائفة العلويين التي تدافع عن الأسد باللغة الإنجليزية، دون أن تفهم عقلية المتلقي، ليصبح ما تقوله أشبه بالفيلم المدبلج، وعمران الزعبي صاحب الكنية اللافتة، فهو، كما يظهر من كنيته، ابن درعا التي انطلقت منها الثورة السورية ضد حكم الطاغية بشار الأسد، وعمّت سريعا مناطق حوران، وطبعا هناك وزير الخارجية وليد المعلم ابن العائلة الدمشقية المعروفة، يُضاف لهم مجموعة من المساعدين لأداء أدوار مختلفة ضمن الوفد من الإعلام، ومع الوفود المشاركة.

كان مضمون خطاب وليد المعلم دلالة صريحة على حالة الإنكار الكامل والمأساة الحقيقية التي يمثلها نظام الأسد في المنطقة عموما، وفي سوريا تحديدا، نظام قتل مئات الآلاف وشرد ودمر وأصاب وأهان أكثر منهم، ومع كل ذلك وبكل فجاجة يتجرأ بالقول إن سوريا تواجه إرهابا، وإن من يثور عليها إرهابيون، ومن حضروا ليفاوضوها كمعارضة هم إرهابيون، وإن الدول التي جاءت لهذا المؤتمر دول راعية للإرهاب. هذا النوع من الحديث لا يتطلب مؤتمرا للحوار السياسي في جنيف، ولكن يتطلب إرسال وفد الأسد إلى فيينا عاصمة الطب النفسي ومسقط رأس عالم الطب النفسي وتحليله سيغموند فرويد، فالذي يقدمه هذا الوفد من طرح يندرج تحت توصيف الانفصام والإنكار، ولكن الأرجح وبلا سخرية أنه يندرج تحت توصيف الخبث والجبروت والاستخفاف بالآخر.

لم يتلفظ وفد الأسد بحرف واحد يخص المقاومة والممانعة و«الكلام السخيف إياه»، الذي كان يردده هو وحلفاؤه، لأنه من غير المقنع طرح هذا الخطاب الخشبي والنظام يحاصر مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، وهو الأكبر في سوريا، ويدكه بالرصاص والصواريخ قاصفا إياه ومَن فيه ليلا ونهارا، ومحاصرا ساكنيه مانعا عنهم الماء والغذاء والدواء، وحليفه الذي كان يمده في لبنان بالعتاد والسلاح والمال بحجة المقاومة ضد إسرائيل، تنظيم حزب الله، ها هو يقاتل بكل قوته مع نظام الأسد ضد الشعب السوري، وبالتالي متنازلا عن جبهة المقاومة ضد إسرائيل، ولذلك اضطر لأن يستخدم «ورقة» الطوائف، خاصة المسيحيين منهم، وإظهار المطران كابوتشي ضمن الوفد بلباسه الكنسي وصليبه الكبير واضحا أمام الكاميرات فوق صدره.

الرخص السياسي الذي هبط به نظام الأسد إلى مستويات غير مسبوقة من الأسباب الإضافية لحث المجتمع الدولي بكل مرجعياته على ضرورة الخلاص منه، لأنه يمثل أبشع ما في الإنسانية وأسوأ ما فيها؛ ذبح شعبه وأراق دماءه عبر عقود طويلة من الزمن، والإنكار التام لذلك وعدم الإحساس بفداحة ما عمل ولا خطأ ما ارتكب.. إنها أنظمة جُرّدت من إنسانيتها ومن آدميتها، وسُلطت على شعوبها.

مؤتمر جنيف جاء ليؤكد ما كان معروفا، وليعيد تذكير الناس بحجم المأساة التي يعيشها السوريون لأكثر من ثلاث سنوات الآن، وإن كانت حقيقة المأساة تجاوزت العقود الأربعة المأساوية، وهي عمر نظام الأسد أبا وولدا من بعده. جمهوريات سوريا في عهد الأسد انتقلت من جمهورية الخوف إلى جمهورية الرعب إلى القتل إلى الإنكار. نعم، مؤتمر جنيف من الضروري أن يسعى، وبشكل جدي جدا، للقضاء على الإرهاب في سوريا، وإخراج جميع المجرمين الذين أتوا للقتل والاقتتال في هذا البلد العظيم، ولكن أول الإرهابيين هو بشار الأسد ونظامه، وبالتالي مطلوب تخليص سوريا منه ومن المجرمين الذين معه، لأنهم لا يحكمون سوريا، بل يحتلونها.

آن الأوان لأن تحتفل سوريا بعيد الجلاء الحقيقي لها.