ليس دفاعا عن الإرهاب

TT

بت أعرف حين يرسل لي واحد من ولديّ، على «واتس أب» أو عبر رسالة تليفونية عبارة «ماما، ما تخافي أنا منيح» أو «منيحة»، أن ثمة أمرا جللا قد حدث. وفي هذه اللحظة تبدأ دوامة المحاولات التليفونية التي نادرا ما تفلح، بسبب كثافة الاتصالات، حتى يتم الاطمئنان. السيارات المفخخة هي الخوف الأحمر الذي يطارد اللبنانيين، ويباغتهم في أمنهم وسكينتهم. لكن، ما لم يكن بالحسبان، أن ما خفي أعظم. فقد تبين، وللمفاجأة، أن سياراتنا الشخصية التي يفترض أنها آمنة، تحصد من الموتى أكثر مما نجح إجرام الإرهابيين في إنجازه، حتى اللحظة. فخلال السنة الماضية فقط، قتلت حوادث السير 650 لبنانيا وأوقعت 4300 جريح. وهو أمر مفجع في بلد لا يزيد عدد سكانه على أربعة ملايين. والسبب الوجيه لهذه المجزرة الجماعية، ليس أن اللبنانيين لا يجيدون قيادة السيارات، لا سمح الله، ولكن لأن البلد فالت، ولا حسيب على جنون العباد ولا رقيب. فمن ينجو من الإرهابيين يقع في براثن فساد السياسيين، الذين لا يستطيعون ضبط مخالف صغير، طالما أنهم يغطون جرائم من وزن اختلاس المليارات، وتهريب الحشيش وقتل النفس. هناك فئة تغتال الأبرياء علنا بسياراتها المفخخة وأحزمتها الناسفة، وثمة مجموعة أخرى، متسيدة تقتل سرا، بتفخيخ التفاصيل الحياتية الصغيرة للمواطنين. فمن نجا من عبوة ناسفة يفتك به تلوث مكب نفايات، أو يهوي به مبنى قديم، وربما صعقته الكهرباء نتيجة الإهمال أو أودت به رصاصة طائشة في خضم فرحة لا تكتمل، وقد تطير عائلة بأكملها بصاروخ يأتي من سوريا كما حدث منذ أيام في عرسال.

الفساد السياسي مميت، تماما، كالرشاشات والقنابل، بل صار جزءا من عمليات تعميم التسليح والتجييش الطائفي، في لبنان. ومن مظاهر تفاقم الظاهرة، أن السياسيين أصبحوا يلصقون «إتيكيت» من نوع «التدخلات الإقليمية»، و«الموازين الدولية»، على مواضيع حساباتها زقاقية ضيقة، أو «جيبية» دولاراتية محضة، على اعتبار أن أحجامهم تتورم وتتضخم بتكبير الشعارات وتكثير «اللينكات».

وكرد على «الطغيان السياسي» يستولد المواطنون حياتهم وخلاصهم، كما ابتكرت الطالبة اللبنانية في فرنسا ساندرا حسن تطبيق «ما زلت على قيد الحياة» ليساعد العائلات في الاطمئنان بعضهم على بعض، بعد كل حدث جلل، حيث تصبح الاتصالات الهاتفية شبه مستحيلة.

وبقدر ما يغلق السياسيون الأفق، يفتح المبتكرون والفنانون في لبنان طاقات الأمل ونوافذ الرجاء. بدل الفيلم الواحد في السنة صار للبنان في الشهر الواحد أفلام، تحديدا خلال محنة السنوات الثلاث الأخيرة، بعضها يستحق الوقوف له إجلالا. وفي أكثر الأوقات حلكة، تحول «معرض بيروت للفنون» إلى عيد، وعرض تشكيليون أعمالا بديعة أمام 18 ألف زائر، في اللحظة التي كان يفترض أن تهاجم فيها أميركا سوريا، بعد استخدام السلاح الكيماوي.

خواء في السياسة، وخصب في الفنون.

يردد الفنانون اللبنانيون، بلا كلل: «لأن الوضع سيئ إلى هذا الحد، علينا أن نخترع للناس حياة بديلة في المسارح وصالات السينما والمهرجانات». بيروت تهرب من شظايا الثورة السورية التي تطال شوارعها وتلفزيوناتها، إلى فضاءات أكثر انفراجا واتساعا، والتجاوب عارم.

كان عليك أن تسجل اسمك على لائحة انتظار، يفوق عدد المنتظرين فيها الـ30 شخصا، كي تتمكن من الفوز بفرجة على مسرحية سورية عنوانها «حدث ذلك غدا»، علما بأن مسارح المدينة كلها مشغولة بعروض ومسرحيات.

وبينما كنت أتفرج على عرض «وتدور» الراقص، المذهل ذي المستوى العالمي الخلاب، من إخراج عمر راجح، في «مسرح المدينة» تساءلت كيف لشعب يمتلك هذه الإمكانات المجنحة أن يفشل في بناء وطن صغير. عرض تعاضد على تصميمه فنانون شباب لكل منهم اختصاص فني مختلف، هذا في الرقص، وذاك في الموسيقى وثالث في الرسم، ورابع في تصميم الإضاءة، عملوا بانسجامية مدهشة وتناغموا وتزاوجت ابتكاراتهم، وطموحاتهم التكنولوجية، ليقدموا متعة للمشاهد، لا تخلو من عمق، ورؤية مؤثرة لحاضرنا والمستقبل. لم يسأل أحد عن أديان هؤلاء، ولا طوائفهم، أو أهوائهم السياسية. هم المتفرج أن يسعد ويحلق ويخرج منتشيا وسعادة الفنانين أن يروا الفرحة في عيون الناس.

ما كان لستيف جوبس مؤسس شركة «أبل» أن ينجب جهاز «آيفون»، بتصميمه المرهف، وإمكاناته المتقنة - كما يشرح هو نفسه لولا شراكة مع شعراء وموسيقيين وفلاسفة إلى جانب التكنولوجيين وأهل العلم.

جهاز صغير للاتصال، كي يكون جديرا بالحياة والنجاح، احتاج صاحبه أن يشبك صلاته بكل اختصاص وصاحب الهام.

كيف يخطر للسياسيين عندنا، وهم يعرفون إلى أي منقلب ينقلبون، وإلى أي جحيم يسوقوننا، أن يكتفوا بـ«ذكائهم الخاص»، الذي أودى بنا إلى التهلكة.

أوليس إصلاح نظام سياسي، وإنقاذ حياة ملايين البشر، هو أهم لنا، اليوم على الأقل، من ابتكار جهاز تليفوني؟ أما آن لطبقة سياسية تغرق، أن تحتذي بحكمة ستيف جوبس، بعد أن أصبحت أكثر فتكا بشعوبها من السيارات المفخخة؟