صياح الديَكَة!

TT

بعض من لم يكتوِ بنار جهنم التي تشتعل كل يوم وليلة في سوريا يتدفأ عليها عن بعد، أكثر المتدفئين من اجتمع في جنيف الثلاثاء الماضي. وأكثر من تغشى عينه سحابة من الضباب هم محبو الشعب السوري عن بعد، الذين تنفطر أكبادهم على ما يعانيه. إذا كانت الأمور تقرأ بعناوينها فإن لدينا مجموعة من العناوين تنبئ، إن قرئت جيدا، بما ستؤول إليه نتائج النار السورية، فهي إلى مآل الهشيم.

من تلك العناوين تركيبة الوفد السوري الذي ذهب إلى جنيف، فهو من مجموعة رجال وسيدة يمثلون ليس صوت سيدهم فقط، بل وأكثر. القارئ لمسيرة تاريخ الديكتاتوريات العربية يعرف معرفة اليقين أن مثل ذلك الوفد الذي يرسله الديكتاتور، لن يتحدث باسم رئيسه فقط، بل سوف يزايد ما أمكنه ذلك، كمجموعة وأيضا كأفراد.

ونذكر من ضمن ما نذكر وفد صدام حسين في مؤتمر شرم الشيخ في الأول من مارس (آذار) 2003، حينها اقترحت الإمارات، بمبادرة من المرحوم الشيخ زايد بن سلطان، خطة لحقن الدماء وتجنب الحرب، وإنقاذ العراق، وافق على الخطة صدام حسين، ووأدها مجموعة ممثلي نظام صدام حسين في ذلك المؤتمر، ومن تبعهم من العرب خوفا أو رجاء، مثل هذه الوفود تنتقى لأنه ليس فيها صفة الوفاء المطلق فقط، بل أيضا التبعية المطلقة، وما الألفاظ النابية التي استخدمها وليد المعلم في افتتاح المؤتمر الثلاثاء، إلا تأكيد على المزايدة الفجة واللغة الخشبية التي تشابه ما استخدمه موفدو صدام قبل أكثر من عقد من السنين.

في الجانب الآخر فإن وسائل الإعلام العربية وغيرها قد رفدتنا في أيام المؤتمر بالمعارضين المنشقين وأصواتهم، وهو في الحقيقة مفهوم متناقض (معارضين منشقين) دون تلبيس أحد أي تهمة، فالمعارض المنشق هو في الحقيقة ذخيرة احتياطية للنظام الأسدي نفسه، ولصغار العقول، يزايد المعارض المنشق على مجموعة المعارضة المفاوضة برفع سقف المطالبات، ما دامت تلك المطالب لا تتعدى القول، ويعطي النظام في دمشق إضافة معنوية، إن لم يكن كل السوريين خارج سوريا مع المعارضة. أما أمراض المعارضة الداخلية فهي كثيرة، يجد بعض الناس بعض العذر لها، ويتهمها آخرون بقلة الخبرة، بل إن وفاضها خال من خطة مستقبلية واضحة لا لبس فيها.

على الصعيد الدولي فإن الارتباك واضح في ربع الساعة الأخير قبل اللقاء في مونترو، المدينة السويسرية محتضنة اللقاء. فبان كي مون يرسل دعوة لطهران على قاعدة أنها جزء من المشكلة، ووجب أن تكون جزءا من الحل، سرعان ما يسحب الدعوة، لا يعرف الجمهور على وجه اليقين لماذا قد جرت الدعوة في ربع الساعة الأخير ولماذا سحبت بعد ذلك. يقول من أوتوا العلم إن بان كي مون لا يستطيع أن يتصرف دون ضوء أخضر من واشنطن وربما موسكو، فهل هناك بالونات اختبار تطلق من جانب من يتدفأ على النار السورية المشتعلة. ومما زاد الطين بلة تناقض تصريح سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي الذي يؤكد أن الأسد باق! مع جون كيري وزير الخارجية الأميركية، فيؤكد أن الأسد مغادر! ترى من يقول الحقيقة؟

المشهد بكامله عبثي، فقبل ساعات من انعقاد المؤتمر يظهر تصريح - بالصوت والصورة - من الرئيس الأسد أنه سوف يخوض «انتخابات» مقبلة، وعلى الشعب السوري أن يقرر من يريد أن يحكمه! وهل بقي أحد من الشعب السوري يستطيع أن يذهب إلى صناديق اقتراع إذا ما نصبت وتحت أي ظروف؟ لا أحد عنده الجواب.

حتى الآن مئات الآلاف من السوريين إما قتلوا أو شردوا أو ماتوا جوعا أو هم في سجون يسفون التراب، ويحاول فريق الأسد المفاوض أن يحرف القضية إلى ما سماه وزير الإعلام عشية قدومه إلى جنيف «حرب الإرهاب» وكرره المعلم بسماجة، متجاهلا كل أجراس بان كي مون!! الذي طالبه بالتوقف عن الهذر! وهل أكثر من إرهاب الدولة السورية؟ أما السيدة الوحيدة، مترجمة أفكار الرئيس الأسد، بثينة شعبان، فهي هناك لتؤكد، كما قالت، أن المعارضة تستخدم الكيماوي! هي دائما صادقة، فقد كان لها مقال سابق قبل تسع سنوات بالكمال، ويمكن إخراجه اليوم من على الإنترنت، أكدت فيه أن المتفجرات التي اغتالت الشهيد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري قد جاءت من إسرائيل! وكانت وقتها عضوا في مجلس الوزراء السوري! فأي مصداقية يحملها الوفد الرسمي المفاوض في سويسرا!

المراقب في حيرة من أمره، فعلى الصعيد النظري يمكن فهم السير في طريق التفاوض على أساس أن أي تطور للصراع العسكري قد، وهي قد كبيرة، ينتهي بسقوط الحكم السوري في يد المتشددين، تلك هي القاعدة النظرية التي تربط الحبل السري بين الدبلوماسية الأميركية والدبلوماسية الروسية، كل يتخوف من ذلك الاحتمال، بعد ذلك تتفرق السبل، فلا اتفاق على ما خطه «جنيف واحد»، وهو العنوان العريض الذي يسمى «حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات» تهيئ إلى الانتقال بسوريا إلى فضاء أرحب، دون المخاطرة بعرقنتها، وقد يكون هو طوق النجاة للنظام السوري، وهذا العنوان هو ما يسعى لتحقيقه وفد المعارضة، إلا أنه عنوان ليس من السهل الوصول إليه، فإيران خارج حجرات التفاوض تتشدد، لا يهمها كثيرا كم من القتلى سوف يسقطون، ولا روسيا يهمها ذلك، فعدد الشعب السوري - والحمد لله - كبير، كما أنهم قد تعودوا، أو أكثرهم، العيش في الخيام، فلماذا العودة إلى المدن والقرى؟!

إن ما اصطلح عليه بـ«جنيف 2» لا يعدو أن يكون صياح ديكة، ولكنه في وضح النهار وأمام وسائل الإعلام العالمية، وصياح الديكة لا ينبئ في عصرنا عن بزوغ الفجر، بل إيذان بقدوم الظلام!

آخر الكلام:

قتل أحد عشر ألف أسير صبرا وبدم بارد يجعل النظام السوري يحمل الميدالية الذهبية في التصفيات، متفوقا على كل التصفيات العرقية والمذهبية المعروفة تاريخيا، ويدخل بها موسوعة غينيس في القرن الحادي والعشرين.