خلي بالك من زوزو

TT

لا أحب جلد الذات. وقد أقلعت منذ زمن طويل عن المقارنة بين ما يحدث في بلاد العالم وبلادنا. وليس من العدل، دائما، أن نشير إلى مظاهر تقدم أهل تلك البلاد، وأن نتحسر على تقهقر أهلنا وجماعتنا. لكن حكاية زوزو استفزتني، بالمعنى الإيجابي لا السلبي، على الرغم من أنني راجعت «لسان العرب»، ووجدت أن الفصاحة لا تستقيم حين نقرن فعل الاستفزاز بمعاني الارتياح.

زوزو، يا محفوظي السلامة، ثعلب فرنسي دارت حوله معارك قضائية محتدمة، وتشكلت من أجل قضيته لجان للتضامن، وطاردته عدسات المصورين مثل نجم من النجوم، وتعاطفت معه المنظمات غير الحكومية، وكأنه آخر الثعالب المحترمين على هذه الأرض. وهو يستأهل كل ذلك طالما أنه لطيف وابن ناس أوادم، وحكايته تقطع نياط القلوب. فقبل أربع سنوات، عثرت عليه ممرضة على حافة درب ريفي يخترق غابة قريبة من بيتها، وكان حديث الولادة، يلتصق بوالدته الثعلبة المدماة التي كانت سيارة قد دهستها للتو.

أشفقت عليه وأخذته معها إلى بيتها واستشارت زوجها، وقررا إبقاءه عندهما مثل حيوان أليف، وسمياه زوزو، وكانا يسقيانه الحليب بالرضّاعة، مثل طفل قبل التسنين، ثم راحا يطعمانه الكفتة، مثل الكبار، ويأخذانه إلى الطبيب البيطري لكي يجري له اللقاحات اللازمة. إن البيت الريفي يحتضن العديد من القطط والكلاب والدجاج، وقد تربى الثعلب بينها، طليقا في البداية، ثم في قفص كبير مغلق خاص به، مؤثث بالأشجار والأعشاب والصخور ومساقط المياه مثل غابة مصغرة.

و«زوزو دي كلام حنعوزه»، كما جاء في الأغنية، وهو قد كبر وبدأ يلعب الكرة مع «والديه» بالتبني، ويستأنس وهما يداعبانه ويملّسان فراءه الناعم، ويرد على النداء حين يُوجه له باسمه، ويهزّ ذيله عندما يكون مسرورا. وقد كانت دجاجات البيت تقترب للشرب من «طاسة زوزو» دونما خوف من أذيّة. فهو لم يكن يعوي، مثل قومه الذئاب، بل ينبح بأناقة. ولعله تعلم هذه اللغة الأجنبية من كلاب العائلة. ولا أدري إن كان أتقن المواء أو النقنقة، أيضا.

لكن أغنية زوزو لن تستمر في الترويح عن مستمعيها، ذلك أن القوانين في هذا الغرب المتوحش لا تسمح بتربية حيوانات متوحشة في أماكن مأهولة. ولا بد أن أحد الجيران قد وشى بالثعلب المكّار الذي يتحدث بلغة الكلاب الأليفة، فوصلت إلى الزوجين رسالة تطالبهما بإيداع زوزو لدى أقرب حديقة حيوان، وإلا فإن الغرامة باهظة. وهما قد تمسكا به، ودفعاها.

كانت تلك بداية معركة قضائية دامت ثلاث سنوات، ما بين محاكم الابتداء والاستئناف والنقض، وصارت حديث المجالس، واستقطبت اهتمام وسائل الإعلام وجماعات الرفق بالحيوان. وقد انتهت الأغنية، منذ يومين، بقرار من حاكمية المنطقة يسمح ببقاء الثعلب في البيت الذي تربى فيه، مع عائلته الكبيرة. هل سأله أحد رأيه؟ الغابة أم القفص؟

وإلى جانب زوزو، كانت قضية توأم من الفيلة الصغار في إحدى حدائق الحيوان، قد أثارت مشاعر الفرنسيين، قبل أشهر، لأن قرارا صدر بإعدامهما بطريقة «الموت الرحيم». قال البياطرة إنهما مصابان بالسل، ولا أمل في شفائهما. وهي المرّة الأولى التي أسمع فيها أن الفيلة تصاب بالتدرن. وهنا أيضا، قامت القيامة وطرحت بريجيت باردو الصوت، وتحرك القضاء وتشكلت لجان التضامن حتى جاء الحل على يد أميرة موناكو ستيفاني. لقد قررت أن تتبناهما وتنقلهما إلى ربوع إمارتها الساحرة، وتنفق على علاجهما. وقد شاهدتها على التلفزيون، أخيرا، وهي تتفرج عليهما بمنتهى الفرح، وتعلن أن الفيلين قد تعافيا من المرض. ولعلهما سيرتادان كازينو القمار في مونت كارلو، ذات يوم.

تستفزني هذه الحكايات وأغبط أصحابها. أغبط القوم ولا أحسدهم. لأنها تنقلني على بساط الريح بين بلاد وبلاد، وتفتح لي طاقة الحلم لكي أتمنى أن يكبر أطفالنا بمنأى عن رعب التفجيرات في سوريا ولبنان ومصر والعراق وفلسطين؛ أن يتدللوا مثل الثعلب زوزو والفيلين بيبي ونيبال، وأن يعبأ بمصائرهم سياسيون وقضاة وأمراء ومحامون وأهل خير وأريحية.