«داعش» وشرها المستطير

TT

مع بدء المحكمة الدولية في لاهاي محاكمة المتهمين باغتيال الرئيس اللبناني الراحل رفيق الحريري، أعدت مشاهدة بيان ظهر بعد ساعات من الاغتيال. يتبنى أحمد أبو عدس في البيان عملية الاغتيال تحت اسم جماعة وهمية أطلق عليها جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام. نجح هذا البيان في تضليل المحققين لمدة من الزمن، قبل أن يكتشفوا أنهم ضحية خداع استخباراتي، ثم يلاحقوا بعدها من كانوا وراء ترويج هذا الشريط. انقطعت الأخبار عن أبو عدس حتى ظهرت أنباء أنه جرت تصفيته في أحد سجون سوريا ليموت سره وسر من وراءه قبل أن تحرره الثورة الشعبية من سجن النظام. الملاحظ في بيان أبو عدس أنه يحمل نفس مواصفات خطابات وأقوال الداعشيين التي تنضح بالعداء للسعودية. نفس التوجه والكلمات وأسلوب الخطاب تحملها مقاطع الداعشيين في الـ«يوتيوب» وتغريداتهم في حسابات «تويتر» ذات الأسماء الحركية التي تهتم بالمساجين والموقوفين في قضايا إرهابية وتتوعد بالانتقام لهم.

من الطبيعي تشابه أهداف الصنائع الاستخباراتية إن كان الصانع واحدا، لذلك تشابه بيان أبو عدس مع تصريحات الداعشيين. الفرق بينهما أن جماعة «النصرة والجهاد في بلاد الشام» التي ظهرت في بيان أبو عدس كان هدفها أقصر وأكثر تحديدا، وهو تضليل المحققين وإعطاء منفذي الاغتيال الوقت الزمني الكافي للهروب والاختفاء، بينما هدف «داعش» أكبر وأكثر تعقيدا، واستلزم بناؤها سنوات من التمهيد والتخطيط والاختراقات والتسويق - خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي - حتى تكون بالقدر الذي يسمح بتنفيذ أهداف استراتيجية وعمليات عسكرية.

وقد حققت «داعش» هذه الأهداف بامتياز، فمنذ أن وضعت أقدامها في سوريا وهي تنفذ أجندة المخابرات السورية والإيرانية وتعبث بالصفوف الخلفية لثوار سوريا؛ تفرق شملهم، وتفتت وحدتهم، وتفتعل الخلاف مع هذه الجماعة وتلك، وترفض المشاركة في أي محاولات لرأب الصدع وحل الخلافات أو حتى الاحتكام إلى الشرع للبت في مشاكلها مع بقية الفصائل، وبدلا من قتال العدو الماثل أمامهم في ساحة المعركة يوجهون فوهات أسلحتهم إلى صدور من يقاتله، ويهددون ويستفزون الدول المناصرة للثورة السورية لإخافتها من أبعاد انتصار الثوار في معركة التحرير، ويشوهون الثورة بأفعالهم المنتهكة لحقوق للإنسان ليوحوا للعالم بأنها بلا أخلاق ومبادئ وأنها لا تقل عن النظام السوري بشاعة وإجراما. وقد قويت شوكتهم بعد وصول المهربين من سجني أبو غريب والتاجي إلى سوريا، وهي العملية التي زعم تنظيم داعش تنفيذها تحت اسم «هدم الأسوار»، واستفاد منها لتسويق نفسه داخل الساحة الجهادية واستقطاب مقاتلين صدقوا هذه المزاعم. والحقيقة هي التي أعلنها وزير العدل العراقي من أن العملية ما هي إلا مؤامرة اشترك فيها رؤوس كبار بتواطؤ من داخل السجن لأهداف ذات علاقة بالملف السوري ولإخافة أميركا من تعاظم دور «القاعدة» هناك.

المؤسف هو اشتراك خليجيين في خديعة «داعش»؛ تجاهلوا نداءات العلماء والمفكرين والثوار السوريين بعدم الحاجة إلى الرجال قدر حاجتهم إلى المال والسلاح، وذهبوا إلى هناك ليصبحوا عالة على الثورة والثوار، وظفتهم «داعش» لخدمة أهدافها التخريبية، وأزاحوا بوجودهم هناك العبء المالي عن الدول والاستخبارات التي تمول داعش. فهم لا يحتاجون إلى تمويل في ظل التبرعات التي تأتيهم بطرق غير نظامية من متبرعين يحسبون أنهم يخدمون الشعب السوري بينما هم في الواقع يخدمون أعداءه. تحولوا، بفضل سذاجتهم السياسية وجهلهم بصراعات القوى، إلى مرتزقة بالمجان يقادون إلى الموت دفاعا عن أعدائهم.

الآن، هم يدافعون تحت راية داعشية تتحكم فيها استخبارات سوريا وإيران، وربما في الغد القريب بعد إفشال الثورة السورية وانتهاء دورهم نراهم تحت نفس الراية أو بدولة إسلامية أخرى قد تضم فلسطين ولبنان، يتسلم زمام إدارتها هذه المرة جهاز الموساد الإسرائيلي لتخدم أهدافه التوسعية والتدميرية، وسنرى نفس التصريحات تتكرر بوجوه ملثمة وأصوات صارخة تهدد بارتكاب المذابح والجرائم التي تخدم أعداءنا باسم ديننا والجهاد الذي شوهوه. وسينبري - كما في كل مرة - المتعاطفون المخدوعون بهم للدفاع عنهم والتهجم على كل من يحذر منهم ومن أفعالهم، ويتهمونه بالنفاق والوقوف مع الأعداء ضد الإسلام.