قلب القلب هو الحزن!!

TT

«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، هكذا قال العلامة الصوفي النفري في واحدة من تجلياته، وهكذا عندما أرى بعض الأعمال الفنية تستعصي على التحليل، حيث تقف فيها الكلمات عاجزة عن التواصل والإمساك بالمعنى أتذكر مقولة النفري.

الرواية العظيمة واللوحة الأخاذة والفيلم الساحر والقطعة الموسيقية التي تحلق بك بعيدا، عندما تكون وظيفتك هي أن تحيل إحساسك بها إلى كلمات، فأنت تفقدها ألقها وخصوصيتها، إذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة تخصم الكثير من الجمال الفني، فما بالكم عندما نصبح بصدد مجال فني مرئي ومسموع مثل الفيلم تحيله إلى مجال آخر، مقال مقروء؟ ولهذا مثلا وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن الرواية العظيمة لا تؤدي بالضرورة إلى فيلم عظيم، كما أن الرديئة قد تنطوي على خط درامي ما لو أمسك به المخرج لاستطاع أن يصنع فيلمه.

طالت المقدمة أكثر مما ينبغي، ولكن ليس هذا هو موضوع المقال، ولكني أتحدث عن فيلم استثنائي شاهدته في مهرجان «دبي»، وهو الآن يسير بخطوات ثابتة وواثقة لاقتناص الأوسكار بعد أن حصل مؤخرا على جائزتين متتاليتين، «غولدن غلوب» لأفضل فيلم درامي، ثم جائزة «رابطة المنتجين في هوليوود».

كثيرة هي المرات التي وجدت فيها الكرباج ينهال على ظهر العبد في فيلم «12 عاما من العبودية» وكأني أتلقاه على ظهري، الضربات المحسوبة هي فقط التي يختلط فيها الدماء باللحم، وإلا فإن العبد الذي يتقاعس عن ضرب زميله هو نفسه سيتعرض لذات العقاب، الفيلم الذي أخرجه ستيف ماكوين يقدم رواية حقيقية عن رجل من أصل أفريقي أمسكه بعض تجار العبيد، كان سيدا في الشمال وأرادوا أن يبيعوه كعبد في الجنوب، والخطة هي محو ذاكرته وأولها أن يغير اسمه وأن ينسي تماما أنه كان سيدا، وإلا فإن العقاب القاسي ينتظره وبلا رحمة، هو وزوجته وطفلاه عليهم أن يتحملوا كل صنوف العذاب. إذا لم تقاوم الظلم فأنت عبد، وإذا قاومت فإلى متى؟

علاقتنا بالحقيقة هي العمق الفكري والدرامي في هذا الفيلم، لا يكفي أن نصمت عن ذكرها، بل ونقتنع بأنها أيضا هي الكذب بعينه، كنا كمشاهدين نريده أن يصمت ويعلن أنه عبد، تواطأنا حتى نفلت من العقاب.

هل الفيلم يوجه شحنة الغضب ضد نظام العبودية، أم إلى الدفاع عن الحقيقة؟ العبد أراد التحرر لا لأنه يرفض العبودية ولكن لأنها لم تكن الحقيقة، ولكن ما ذنب من ولد عبدا؟ هل عليه أن يستمر في الصمت والخضوع؟ إنها النغمة التي رددها الفيلم باقتدار وبتنويعات مختلفة طوال أحداثه.

الممثل شيوتييل أجيوفيير المرشح للأوسكار قدم إبداعا خاصا في أدائه لتلك الشخصية التي تقاوم حتى وهي تبدو ظاهريا مستسلمة، للعبودية سلاح آخر وهي أنهم يتلاعبون أيضا في الدين، هناك قس يحرف في كتاب الله لكي يقنع العبد الأسود أن إطاعة السيد هي من طاعة الله، ولهذا فإن تحرر العبد لن يأتي بقرار ولا بمجرد الإحساس بالعذاب، ولكن بأن يمتلك روح التحرر، ورغم أن الأحداث لا تنتهي بثورة العبيد، ولكن بأن يعود مرة أخرى البطل لبلده في الشمال، ليصبح سيدا، فإن هناك بذرة رأيناها تنبت على الأرض ترفض العبودية. النهاية السعيدة لم تحُل دون أن نشعر بأن هناك غصة من ألم وفيضا من حزن يسكنان مشاعرنا، وتتردد مرة أخرى واحدة من تجليات النفري «القلب يتغير وقلب القلب لا يتغير، وقلب القلب هو الحزن»!