«الأمة الماضوية»

TT

يذهلني باستمرار مساحة وحجم الحديث الكبير عن «الماضي» لدى الجمهور العربي، وكأن الموضوع تحول إلى مخدر عام و «بنج» كلي، يتيح وبسهولة فرصة «الهروب» من مواجهة وتحديات واقع اليوم وبالتالي بناء مستقبل الغد. الإغراق في مقولة إن الأمس كان أفضل، وكل شيء من الماضي كان أحسن، وإن الناس قديما كانوا أفضل من أهل اليوم.. كل ذلك ولا شك سيؤدي إلى حالة سلبية جدا من اليأس والقنوط وفقدان الأمل في إحداث أي تأثير أو تغيير أو تطوير في الحال العام والخاص. وليس العرب بالأمة الوحيدة التي «يحق» لها أن تتغنى وتطرب لأمجاد الأمس وإنجازات الماضي؛ فالصين على سبيل المثال أمة عظيمة وإنجازاتها في كل المجالات هي من عمق التاريخ نفسه ومن جذور أحداثه، ولكن الصينيين «تجردوا» من الحبل السري الذي يربطهم بالماضي وأصبحوا يتعاملون معه من منطلق أحداث مروا بها، فيها ما يبعث على الفخر والاعتزاز وبه من العبر والدروس والفوائد ما ينبغي التدبر فيها والاستفادة منها للبناء عليها وعدم تكرارها، وهو قد يكون أحد عناصر وأسباب تفسير التفوق الصيني اليوم والذي يبهر العالم ويجبره على الوقوف طويلا أمام الظاهرة لدراستها وتحليلها ومحاولة الاستفادة منها.

وهناك المثال الآخر في اليونان، مهد الحضارة والتاريخ الغربي بأسره ومنبع الديمقراطية والفنون والفلسفة، ومؤسسة فكرة المدينة الدولة في العاصمة العريقة أثينا. مع مرور الوقت والأزمان تحولت إلى قصة بائسة وحزينة «للماضي الأليم»، اندثرت اليونان كقوة عظيمة، ليس فقط على الصعيد العسكري ولا على الصعيد السياسي بل حتى على الصعيد الفكري، فروما وغيرها من المدن والأمم تفوقت على الإغريق وقدمت نماذج جديدة للحكم وللدين وللفكر حتى جاء الفكر البروتستانتي من وسط أوروبا من سويسرا وهولندا والنمسا وألمانيا، ليعيد ترتيب الخريطة الأوروبية بناء على رؤية جديدة كانت خلف الكثير من محركات النمو الذي أصاب القارة وساهم في ترسية قوتها عالميا، كل ذلك واليونان تتضعضع وتفقد هيبتها وقيمتها ودورها حتى لغتها باتت مهددة بالانقراض مثلها مثل اللغة اللاتينية التي راحت أدراج الرياح. وهناك الأمة الإيطالية التي تقع في منطقة رمادية، فهي تضع قدما في الماضي التليد، المليء بأمجاد روما وتألقها وإنجازاتها الكبيرة، فهي كانت ملهمة لقرون من التوهج الأوروبي لعهد النهضة والتي أفرزت للقارة أهم رموزها في الأدب والفنون والموسيقى والسياسة بشكل غير مسبوق، وتبوأت مكانة القيادة والريادة لقارة عظيمة ثم انطفأ الوهج وغابت روما وإيطاليا وانطفأت البندقية بإرثها التجاري الهائل وغابت نابولي وجنوه وغيرها من مراكز الوهج الإيطالي لصالح غيرها من النماذج التي استحدثت، ومن جهة أخرى هناك قدم أخرى تضعها إيطاليا في الغد والمستقبل وتحاول جاهدة أن تكون عنصرا فعالا ومؤثرا في حاضر القارة الأوروبية ولاعبا أساسيا في سياساتها واقتصاداتها، ولكن الكثير من الرعونة في التنفيذ هو الذي يفسر حالة الانفصام السياسي الهائل التي تقع فيه إيطاليا. انفصام بين الماضي التليد والحاضر المختلف هو الذي قد يبرر التغيرات الوزارية المهولة عددا حتى باتت الوزارة الإيطالية مضربا للأمثال ومجالا للتندر.

العرب هم «أسرى» الماضي، وكأنه يكبلهم بقيود وأغلال من حديد لا يجرءون على التحرر من الثقل والعبء الذي يجيء مع الماضي العظيم الذي يتغنى به ليلا ونهارا وليس هناك دليل أبلغ على ذلك كله سوى حجم الأدبيات التي تملأ أرفف المكتبات مقارنة مثلا مع النظرة للغد وللمستقبل، وهما مادتان لا تلقيان أي قدر من الاهتمام يذكر بالمقابل، وكذلك الأمر ممكن أن يوصف الطرح الإعلامي بصورة عامة في التلفزيون والإذاعة والسينما والمسرح أيضا.

الحديث المستمر والانغماس التام حتى الغرق في الماضي والتعلق فيه تماما يؤهل الأرضية الخصبة تماما لأن تزرع فيها نظريات المؤامرة وأن يتم تأهيل وتبرير كل الإجابات والتفسيرات بكل الأخطاء والزلات والكوارث والمآسي وهو حل بسيط وسهل لأن العقلية «الماضوية» يصعب عليها التعايش مع نور الحاضر وضوء المستقبل وبالتدريج تتحول إلى أمة هامشية.. أمة على هامش الحاضر وخارج إطار المستقبل، ومع مرور الوقت ستصبح «ملاحظة» عابرة في سرد التاريخ الكلي للأمم.

الماضي ما هو إلا مرحلة مهمة من الزمن، وإذا تعلقت بهذا الجزء فقط ستكون للأبد محجما بقدر ذلك.