ركن الشتامين

TT

من أهم الأماكن التي تستحق المشاهدة في لندن، زاوية الخطباء في متنزه هايد بارك الشهير. أنا أفضل تسميتها بزاوية الشتامين. ففيها يقف أي إنسان على صندوق خشب ويشتم الحكومة وكل من يشاء من الشخصيات. وهناك نفر من الشرطة يحرسونه ويحمون حقه في الشتم. يبعدون وقد يعتقلون كل من يتعرض للخطيب ويحاول إسكاته.

زرت هذه الزاوية مؤخرا وآلمني اختفاء شاب أفريقي أسود اعتاد على سب أعلى شخصيات البلاد. طالما استمتعت ببذاءته ومسباته وفشاره الرذيل، ولا سيما على النساء الإنجليزيات وأخلاقهن. وكنت أشارك مستمعيه الإنجليز والإنجليزيات في نوبات متواصلة من الضحك كلما أجاد في الوصف والتعبير.

والطريف في أمره، أن الحكومة كانت تدفع له راتبا على فعله هذا لأنه أصبح من عناصر تشجيع السياحة لبريطانيا. فكثير من الأجانب، ولا سيما الأميركان وفي هذه الأيام الروس والعرب يجعلون زيارة هذا المكان والاستماع لما يقال فيه من فظائع الشتم من مهمات زيارتهم لبريطانيا. وكان يقبض راتبا محترما من وزارة السياحة. وتحاسبه على ساعات عمله. وإذا تمرض بالتهاب اللوزتين أو أي مرض ولم يستطع الكلام، فعليه تقديم تقرير طبي عن غيابه ومدة عجزه عن الشتم. وإلا خصموا من أجره عن مدة سكوته.

وعندما زار خروشوف بريطانيا حاولوا اصطحابه إلى زاوية الخطباء ليطلع على ديمقراطيتها وحريات شعبها ويسمع كيف يشتمون الحكومة بكل حرية. ولكنه اعتذر قائلا: إنه «لا داعي لذلك فأنا أيضا أشتم حكومتكم كل يوم!».

لا أسوق كل هذا الكلام من باب الإعجاب بحريات الشتم في بريطانيا وكيف تحولت إلى مصدر رزق. فنحن أيضا بيننا عشرات الكتاب جنوا أموالا طائلة واشتروا فيللات فارهة من تجارة الشتم. يشتمون شخصا أو حزبا أو شخصية مسؤولة بما يضطره لدفع مبالغ طائلة لسد أفواههم. حاول بعضهم كسب مثل ذلك بالمدح وخاب سعيهم. فأين تجارة المدح من تجارة الشتم! لا يدفعون قرشا واحدا في بريطانيا لمن يمدح. والمداحون عندنا أصبحوا عشرة بقرش.

ولهذا اتصل بي أحد الرسامين الكاريكاتيريين قبل سنوات واقترح علي إصدار مجلة ساخرة هو يرسم فيها وأنا أكتب ما يكفي من الشتم بحيث نكسب مبالغ جيدة تضمن لنا عيشا كريما. اعتذرت وقلت له، لا يا أخي لا. أنا ما أفيدك. شوف لك واحد غيري. فأنا قضيت كل عمري أشتم حكوماتنا ولم أقبض فلسا واحدا منهم. «أنا ما أصلح لهذي الشغلة».

«لا يا خالد لا. ما تقولش هالكلام. هذا مش ذنب حكوماتنا. هذا ذنبك أنت. أنت تشتم بالغمز والرمز وهذا ما ينفع معاهم. ما يفهموه. الحكومات تريد رجال. إذا تشتمهم لازم تشتمهم دوغري، وجه بوجه. تخترع وتختلق فضايح من الهوا وتلصقها فيهم وتبتزهم. يالله خلينا نتعاون ونعمل هيك يا خيي!».

«لا يا عمي لا! أنا خلي أستر على نفسي بالأول من كلام الزملاء قبل ما أفكر أشتري لي فيللا من تجارة الشتم. شوف لك واحد غيري!».