عن التطرف

TT

التطرف في جانب من جوانبه هو أن تنكر وتتنكر للواقع من حولك، وهو الواقع الذي صنعته الناس عبر عصور طويلة. وذلك من أجل أن يتحقق لهم واقع مغاير من صنعك أنت، واقع لا يعرفون شيئا محددا عن ملامحه أو قواعد الحياة فيه.

وإذا كان كل المفكرين الإصلاحيين في كل مراحل التاريخ يعملون على تغيير الواقع من حولهم إلى ما يرونه الأنفع والأفضل والأكثر خيرا وعدلا، غير أنهم في سبيل ذلك لا يدينون المجتمع ككل بل أجزاء منه، بمعنى أنهم يعملون على زيادة مساحة الخير فيه وتقليل مساحة الشر إلى حده الأدنى الذي يمكن الوصول إليه. أي إنهم يلقون بالمزيد من الأضواء على مناطق الخير في العقل والنفس البشرية وفي البيئة المحيطة وذلك من أجل إقناع الناس بالحرص عليها والابتعاد عما يفسدها من أفكار خاطئة أو سلوك ضار. هكذا نرى أنهم لا يدينون الواقع بأكمله ولا يطلبون اقتلاعه من جذوره، بل يعملون على تقويته وتنقيته بالحذف والإضافة وبالإحلال والتبديل ليزداد قوة وتماسكا وخيرا وعدلا.

أما المتطرف الأرضي أو السماوي، فتركيبته النفسية تجعله يرى الواقع بأكمله شرا مطلقا لا بد من القضاء عليه من أجل إقامة واقع مثالي جديد يخلو من الشر ولا ينضح إلا بالخير حيث تكتسب الناس فيه سمات ملائكية. وبالتجربة وبخبرة التاريخ، سنرى أن المتطرف عندما ينجح في مسعاه، فهو ينجح فقط في تحويل المجتمع ليس إلى جنة على الأرض بل إلى قطعة ملتهبة من الجحيم.

ولكل زعيم من زعماء التطرف أدواته الفكرية التي يعمل بها على حشد الناس لتحقيق الهدف المنشود وهو الخير المطلق أو العدل المطلق أو العظمة المطلقة كما كان الحال في حكومة الرايخ الثالث في ألمانيا النازية. سيتربع الزعيم على عرش قلبك ويستولي على عقلك بأفكار ساحرة جميلة، ومنها.. أنت أعظم مواطن على وجه الأرض.. أنت تنتمي لأعظم جنس عرفه التاريخ.. تنتمي لأعظم أمة.. هيا اتبعني لكي نثبت ذلك كله للعالم.. سنثبت للعالم أن ألمانيا فوق الجميع.. هكذا مشت الأفكار النازية في طريقها لتصنع حربا مروعة يقتل فيها عشرات الملايين وينتهي الأمر بأن تدوس أحذية الجنود من العالم كله الأرض الألمانية، وتنقسم البلاد إلى قسمين وتفقد سيادتها على أرضها لأكثر من نصف قرن.

وهنا نصل إلى فهم أخطر عنصر في التركيبة النفسية للمتطرف، القلق الهستيري، هو عاجز عن الشعور بالطمأنينة، عاجز عن الشعور بالرضا، وبذلك تكون رغبته في القضاء على الواقع مصدرها خوفه منه وشعوره بغربته عنه وعجزه عن التوافق معه والاشتراك في صنعه. هو يشعر بألم دائم المفعول، لا شيء على الأرض سيخفف من ألمه أو شعوره بالقلق، لقد بدأ السير في طريق لا نهاية له.

هكذا تجد الجماعة الثورية المتطرفة نفسها في جانب والعالم كله في الجانب الآخر، من المستحيل على صاحب الأفكار الأرضية أو السماوية أن يكون على علاقة طيبة بالآخرين، من الممكن أن يتحالف مع أطراف أخرى، ولكن ذلك يحدث فقط بهدف العدوان على طرف ثالث..