قهوة المستر ديفيز

TT

ما زلت أتذكر وجه المستر ديفيز.. كانت ملامحه هادئة لا تكشف أبدا عما يعتمل في دواخله.. شعره أشيب وبشرته مغضنة تنبئ عن عمر طويل.. التقينا في مكاتب «دارنا للنشر» التي أسسها الأستاذ رشاد الهوني، طيب الله ثراه. وكان رشاد الهوني من طلائع الناشرين الذين دفعت بهم الحرب الأهلية في لبنان إلى لندن وباريس لممارسة المهنة التي أسرتهم، وهي نشر الصحف والمجلات. وكان يعد لنشر صحيفة «العرب» بأن أطلق حملة إعلان عن وظائف صحافية في أول جريدة عربية تصدر في لندن.. واستهوتني الفكرة فتقدمت «على وظيفة»، وقُبل الطلب، وبدأت العمل لأكتشف أن الصحيفة لم تكن صدرت بعد، وأنني أول من قُبل للعمل في مرحلة الإعداد واختيار طاقم التحرير.

بدأت العمل بالمقر الرئيس في «54 بال مال»، على بعد خطوتين من قصر الملكة الأم في لندن. في معظم أيام العمل لم يكن بالمكتب سواي والمستر ديفيز الذي فهمت أنه يجيد المحاسبة ويفهم في القوانين الإنجليزية ولذلك استعان به صاحب العمل. كثيرا ما سئلت عن بداياتي الصحافية، وكثيرا ما اعترفت بأنني لم أولد صحافية كالفطاحل الذين تهز أقلامهم الحكومات وترتجف لها الهيئات الرسمية.. كنت أدرس الأدب، ثم دخلت إلى رحاب الصحافة من باب الاقتناع وليس من باب الحنكة والاعتداد.. ولذلك بقيت دائما على صلة بالإنسان في داخلي بضعفه وقوته. كان حب الكلمة وحب الناس مصدر الضعف ومصدر القوة.. ولم يكن ممكنا أن أدعي لنفسي العصمة، ولذلك ما كابرت إذا ما نبهني أحد إلى خطأ ولا كرهت من صوبني.. ولم أكن يوما من المفاخرين بأقلامهم.

وقبل أن أعود إلى حكايتي مع المستر ديفيز لا بد أن أذكر دفاعي عن اختياري مهنة الصحافة التي فضلتها على الحياة الأكاديمية، في مواجهة مع الأستاذ الذي أشرف على أبحاثي الأدبية.

وقعت هذه المواجهة بعد أن صدرت «العرب» وأسندت إليّ مهمة تحرير صفحة موجهة للمرأة بحكم أنني كنت المرأة الوحيدة في طاقم التحرير.. فكان العمل الصحافي يسير متوازيا مع دراستي الأكاديمية، حيث إنني كنت قبلت الوظيفة في «دارنا للنشر» قبل أن أنتهي من أبحاث الدكتوراه. وكان لزاما عليّ التردد على الجامعة للقاء أستاذي المشرف وإطلاعه على سير العمل الأكاديمي. وفي أحد اللقاءات أخبرته بأنني قبلت العمل في صحيفة يومية وأنني مسؤولة عن تحرير صفحة موجهة إلى النساء وأنني أكتب عمودا يوميا. وهالني أنه قال: «اهتمي بدراستك لأن تحرير صفحة المرأة لا يستغرق أكثر من ساعتين».

في تلك اللحظة تصورت أنه يحقر عملي لأنه موجه للنساء، وتجلت لي الجفوة التي تفصل بين الصحافي والأكاديمي. شعرت بأن ما قاله البروفسور لورانس ليرنر في ذلك اليوم شابه شيء من التعالي على الصحافة والصحافيين والعمل الصحافي، ودون تفكير قلت له بانفعال: «أراهنك بأنك لا يمكن أن تفعل ما أفعله أنا في ساعتين أو حتى في يومين أو ثلاثة أو أربعة». اعتبرت كلامه اتهاما للصحافة بالسطحية التي لا تتطلب مجهودا فكريا مثل العمل الأكاديمي. وأعتقد أن نبرة الغضب والانفعال في ردي عليه أحدثت شرخا في علاقتي معه.

كان انفعالي في ذلك اليوم أقل كثيرا من انفعال اعتراني ذات صباح في مكتب «دارنا للنشر»، وكان ذلك في مرحلة الإعداد؛ فقد حضر إلى المكتب زائر استقبله المستر ديفيز ثم عاد إليّ وطلب مني إعداد القهوة. والحق يقال إنني لم أخاطب أحدا بحدة كما خاطبته في ذلك الصباح.

قمت وواجهته قائلة: «لم لا تعدّ القهوة لنفسك بنفسك؟ ربما لا تعلم أنني تخرجت من أفضل الجامعات في مصر وآيرلندا وأنني أدرس الآن في واحدة من كبرى الجامعات البريطانية.. اليوم تطلب مني إعداد القهوة، ولا أعلم إن كنت ستطلب مني غدا أن أخرج المكنسة الكهربائية لتنظيف السجاد».

كنت غاضبة لأنني تصورت أنه ما كان ليطلب مني إعداد القهوة لو كنت شابا لا فتاة.

مرت على ذلك الموقف سنوات كثيرة ولم أعد أتذكر سوى وجه المستر ديفيز الذي اكتسى بحمرة شديدة، ولم يتفوه بكلمة، بل استدار وخطا ناحية المطبخ ثم عاد بعد دقائق حاملا صينية القهوة، ثم اقترب من مكتبي ووضع أمامي فنجانا من القهوة، ثم عاد إلى مكتبه والضيف الذي كان بانتظاره.

الكتابة، كما قال العقاد، صورة للكاتب والقارئ في وقت واحد. وما كان صدق القلم يوما شهادة للكاتب وحده. وشهادتي اليوم هي أنني ما كابرت أبدا وما كرهت من صوبني. وما زلت، رغم مضي السنين، أتذكر لورانس ليرنر وأتذكر المستر ديفيز، ولا أستطيع أن أجزم بأنني لم أخطئ التقدير في كلتا المواجهتين.. فقد كان اختياري مهنة الصحافة اختيارا موفقا أدخل إلى حياتي وتفكيري كثيرا من الثراء، وكان طلب المستر ديفيز القهوة لا علاقة له بالانحياز للرجال على حساب النساء.