تحسين الصورة الذهنية!

TT

كل فترة وأخرى يسعدني القدر بمفاجأة لطيفة تكون عبارة عن مكالمة هاتفية من شخص أعزه وأقدره وفيها الكثير من الكلام المفيد الذي يستحق التأمل. هذا ما حصل معي منذ أيام حينما تلقيت مكالمة من أحد وجهاء مجتمع الأعمال السعودي «مطلق المطلق»، «وأبو طارق» كما اعتاد محبوه أن ينادوه. رجل دمث الخلق، مهذب لأقصى درجة، منصت وقارئ ومثقف ومطلع ودائم الابتسامة ووطني حتى النخاع. كان يحمل هم عدم وصول الأخبار «الإيجابية» للمواطن السعودي والتركيز دوما على الجوانب السلبية فقط وخطورة كل هذا على الحالة الذهنية العامة. كان يسرد لي بعض الأمثلة المهمة واللافتة، ودائما عندما أكون في حضرة رجل بقامة «أبو طارق» فأنصت بتمعن لما عرفت عنه من مصداقية وأمانة في القول وإخلاص في النية، وأنهيت المكالمة معه وأنا أراجع ما قال واستشهد بوقائع أخرى تمر على ذاكرتي كشريط سينمائي.

السعودية التي وصفت يوما ما بحق بأنها «معجزة فوق الرمال» تشهد اليوم «ورشة» كبرى في قطاعات هائلة، فأكبر مشاريع لشبكات السكك الحديدية في العالم اليوم هي في السعودية، مع مشاريع طموحة جدا لاستحداث أكبر شبكة نقل عام في مدنها الرئيسية وربط لها بين بعضها البعض، وكذلك الأمر بالنسبة لشبكة عريضة من الطرقات والجسور والأنفاق وشبكات تصريف مياه الأمطار وتصريف الصرف الصحي في معظم أنحاء المملكة وتطوير الموانئ والمطارات واستحداث محطات كهربائية عملاقة وتطوير هائل في قدرات محطات تحلية المياه وبناء جامعات وبناء مستشفيات ومراكز طبية متطورة في عدد غير بسيط من مدن البلاد، كل ذلك مشاهد وملموس وأمام أعين الجميع، ودلائله أمام الناظرين، ولكن «القصة» لا تصل للمسامع المطلوبة، وتغطي عليها «السلبية» و«النقد» الدائمان، وحتما هناك من يؤدي دوره بتفان من المسؤولين ويكون دوره بارزا ومتألقا.

والإنجازات التراكمية للسعودية قصة «تنموية» تستحق أن تروى ويجب الإشادة بها، مع السماح بحيز دائم من النقد البناء والنصح والتوجيه من دون تشكيك في الأهداف ولا التجريح في النوايا. وهذه الإنجازات لكي تروى وتقدم وتحكى، مطلوب أن يكون هناك «حملة إيجابية» تربط المشروع بالتاريخ، ويكون هناك عداد زمني تنازلي للأيام المتبقية من المشروع، تحكي ما الذي سيقدمه المشروع من حلول للمواطن وللمكان، وما هي العقبات التي سيزيلها و«صور» مستمرة لشكل المشروع النهائي.

السعودية الآن تشهد أهم طفرة صناعية، مشاريع صناعية من النوع الكبير يجري التعاقد عليها ومعها من خلال «سابك» وشركاتها و«أرامكو» وشركاتها بالجبيل وينبع ومناطق أخرى، وكذلك إطلاق سلسلة غير مسبوقة من المدن الصناعية بمساحات كبيرة ومزايا مغرية. كل ذلك انعكس باستثمارات لافتة في هذا المجال في صناعات مختلفة مؤديا إلى فرص توظيفية لافتة لأبناء وبنات السعودية لينضموا إلى «موجة التوظيف الكبيرة» التي انعكست بسبب سياسات البلاد في وزارة العمل ليكون نتاج ذلك بين ليلة وضحاها توظيف مئات الآلاف بشكل لافت. كل ذلك لا يصل كما ينبغي.. وتبقى قصة أخرى هي التي تحتل العناوين مع عدم إغفال أهمية تلك القصص «الأخرى» إلا أنها ليست كل الرواية وحتما ليست كل ما يمكن أن يقال.

السعودية بلد طبيعي فيه الآمال والطموحات وفيه النجاحات والإنجازات وفيه الإخفاقات، ولذلك من المطلوب جدا إبراز القصة بتوازن وعدل؛ فإبراز السلبيات فقط وبشكل مكرر ومركز لا يمكن تفسيره إلا أنه حملة غير منصفة، وبالتالي بلا مصداقية ولا جدارة، كذلك الأمر حينما يجري التركيز بشكل فيه استخفاف بعقول المتلقين والمستمعين بأن «كل شيء ممتاز» فهذا يتحول من إيضاح ومصارحة إلى استغفال وبروباغندا مثل الذي حدث على لسان أحدهم في مؤتمر دولي مؤخرا بقوله إن السعودية اقتصادها في تنام لآخر 25 عاما ويحقق نتائج ممتازة، فهذا ليس فقط خطأ من الناحية العلمية الرصينة، ولكنه غير مقبول. الانتماء لمدرسة البنك الدولي وصندوق النقد يجعل من ترديد عبارات مبهمة عن الجانب الاقتصادي لكسب «نقاط» أمام مسؤولي هاتين المؤسستين، خطابا غير مطلوب توجيهه للداخل تماما، ومن هنا تتلوث الرسالة المقصودة ولا يستفيد منها المواطن المستهدف أبدا، وهذه النوعية من التصريحات ليست فقط خطأ ولكنها مضرة.

السعودية لديها قصص نجاح مستمرة لا تلقى القدر الكافي من الاهتمام ولا التغطية السليمة من ضمن رواية الإنجازات الكبرى الخاصة بها وهذا تقصير، وكل الأمل أن يعاد النظر في أسلوب النقل والتغطية والتصريح، لأن المواطن المستهدف أن تصله القصة تحاصره حملات تشويه وتضليل وبينهما تغيب صورة حقيقية جميلة عن بلاده لا تصله كما ينبغي. الموضوع أكبر من مجرد حملة تحسين الصورة الذهنية.. الموضوع يتعلق بإيصال الحقيقة نفسها!