الحالمون في «أقلمة» العراق

TT

أسوأ تقدير موقف هو ذلك الذي يستند إلى قراءة خاطئة للمعطيات والعوامل المؤثرة، فالقراءات الخاطئة تقود إلى قرارات خاطئة، وبالتالي فإنها تؤدي إلى فشل يتناسب وحجم القرار، وهذا حدث في قراءة الموقف «سياسيا» قبيل خوض حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران، وحدث بصورة كارثية في قرار غزو الكويت، وسبق الحالتين رفض العرب التعايش مع قرارات الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية، والآن يتمنون العودة إلى حدود ما قبل حرب 1967، وقبل ذلك كان قرار هتلر بغزو روسيا قرارا كارثيا استند إلى قراءات خاطئة. وفي كل الحالات، أدت القراءات الخاطئة إلى كوارث «تاريخية» مدمرة.

لا أريد أن أشبه تبني نشطاء من «رجال الدين السياسيين» لفكرة ساحات الاعتصام في الأنبار وصلاح الدين والموصل.. بقرارات الحروب التي جرت الإشارة إليها، لأنها لا ترتقي إلى حجم التأثير، إلا أنها تلتقي معها في هامش القراءات الخاطئة. وبما أن الخبرة السياسية لرجال الدين محدودة «للغاية»، فإن السياسيين الذين أغووهم وركبوا معهم الموجة مسؤولون تاريخيا عن نتائج الحراك المأساوية، التي بدأت تصيب الناس عامة والفقراء والأبرياء خاصة، وتؤثر على وحدة العراق وأمنه ومستقبله. والغريب أن هؤلاء السياسيين الذين استخدموا لغة تحريضية من دون أدنى قدر من دقة الحسابات، سرعان ما غابوا عن المشهد، أو انقلبوا على أعقابهم.

قلنا لهم من البداية، لا تلعبوا في وحدة العراق، فمحاولات تفكيك العراق تعني أسوأ مما قيل عن «حرب البسوس»، وقلنا لهم إن فكرة الأقاليم الواردة في الدستور كتبت في مرحلة سيئة، وهي إما نفدت صلاحيتها، أو بقيت فكرة صورية سطحية، خصوصا في المناطق غير المنتجة للنفط. ومن يصدق أن المركز مستعد لتأسيس حرس إقليم على غرار ما هو موجود في إقليم كردستان؟ وكم هي أعداد الأقاليم التي ستتشكل إذا ما طبق ما يراه الحالمون؟ عشرة..؟

وقد لا يوجد كيلومتر واحد في العراق غير مشمول بالمادة 140 من الدستور، المعنية بما سمي المناطق المتنازع عليها. وبالمناسبة، فإن معظم السياسيين - من شمال بغداد وغربها - المشاركين حاليا في الحكومة، أو ممن شاركوا واختلفوا، ساهموا في كتابة الدستور، أو في التشجيع بالتصويت عليه، تحت ذريعة أخذهم تعهدات بتعديله! وهي ذريعة ينطبق عليها القول «العذر أقبح من الذنب». فمن الذي تعهد؟ وما قدرته على الفعل؟ وما مصلحته في التعديل؟ لا سيما أن الدستور غير قابل لتعديل فقرة مهمة واحدة منه، إلا خارج السياقات العادية. وإذا كان الوضع هكذا، فالأقاليم تعني التمزق، ويكون أهل المناطق التي يطالب منها أشخاص معينون، أشد الأطراف تضررا.

مشكلة السياسيين الطارئين، والشباب من رجال الدين الذين لا عيب أن تنقصهم الخبرة، ينظرون إلى الأقلمة كمدخل مفاصلة لحالة شديدة التشابك، وعندما يقال لهم: وما مصير السنة في بغداد وديالى وصلاح الدين والجنوب وكركوك؟ تضطرب عندهم الإجابات ويقعون في القراءات الخاطئة، فيصبح لزاما على كل ملم بتشخيص القراءات الخاطئة تسليط الضوء على مخاطر تكرار القرارات الخاطئة، ليطلع عليها الناس عموما، وفي المناطق المعنية تحديدا.

إلى قبل أسبوع، بلغ عدد النازحين من محافظة الأنبار إلى مدن أخرى نحو 140 ألف شخص، كلهم من السنة، ومنهم من نزح إلى محافظة كربلاء الشيعية، وهي خطوة تدل على استمرار حالة الترابط المجتمعي رغم دعايات المغرضين. لكن، ما الهدف الذي يتطلب نزوح الناس عن بيوتهم؟ وألا يوجد فكر استراتيجي يبعد الناس عن الخلافات والصراعات السياسية؟ وما مصلحة منطقة بعينها أن تكون متصدية لمشروع لا يمتلك عناصر النجاح، ويصب في خدمة آخرين داخل العراق وخارجه؟

يستحسن انصراف رجال الدين إلى الشؤون الدينية، وعدم توريط الشباب بخطب تثويرية، وعلى سياسيي الصدفة التوقف عن أي سلوك يعرض وحدة العراق إلى الخطر، والتمسك بالمطالب المنطقية بطرق مشروعة، ولا شك في أنها ستتحقق مع مرور الوقت، فاختلاف المصالح بين الكتل كفيل بتحقيق المطالب الشعبية العادلة، ولا طريق غير هذا، على الأقل في المدى المنظور، وما عداه، فإن الشعب سيحكم على حالات التهور، وإن التوسع في استحداث المحافظات ولد حصادا لمشاريع الأقلمة، ويعزز وحدة العراق، وليس أمام العراقيين غير مراجعة الحسابات والعمل ضمن عراق واحد.