«ولادة» الحكومة!

TT

هناك رئيس وزراء في لبنان اليوم، نجيب ميقاتي، وهو رئيس مكلف بتسيير الأعمال بصورة مؤقتة حتى يجري اختيار رئيس وزراء آخر ويتم تشكيل حكومته، وبالفعل جرى اختيار رئيس وزراء جديد واتفق عليه بأغلبية ساحقة، والمعني هنا هو تمام سلام الذي مضى على اختياره أكثر من «تسعة أشهر»، والجميع لا يزال في انتظار «ولادة» الحكومة الجديدة.

وقُدمت من الفرقاء، وعلى لسان تمام سلام نفسه، كل الخيارات الممكنة والحلول التوافقية: الوزير الملك، والثلث المعطل، و«9+9+1»، وغير كل ذلك.. ولكن يبدو كما يقول المثل اللبناني الشعبي العام المعروف «في حدا ما عم يحلب صافي»، فليست هذه هي المرة الأولى في تاريخ السياسة اللبنانية التي يتأخر فيها التشكيل الحكومي، ولكن هذه المرة لن تكون فقط الأطول، ولكن الأعقد أيضا. فرئيس الوزراء نجيب ميقاتي قاد حكومة جاءت إلى البلاد أشبه ما يكون بـ«الانقلاب العسكري»، وعندما اندلعت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد المجرم صرح نجيب ميقاتي في كلمته المعروفة بأن لبنان اختار سياسة «النأي بالنفس» جراء الأحداث الحاصلة في سوريا، ولكن كان هذا التصريح مجرد كلام مثالي ليس أكثر؛ إذ سرعان ما ظهرت المواقف الحقيقية لأقطاب التشكيل الحكومي اللبناني، فحزب الله أخذ مواقف صريحة مؤيدة لنظام بشار الأسد واصفا إياه بالمقاوم والممانع، وأن الدفاع عنه واجب وضروري، وتوج هذا الكلام بإرسال عدد هائل من قوات ميليشياته مدججين بالمال والسلاح والعتاد للدفاع عن نظامه في سوريا.

ويشكل حزب الله طبعا قوة سياسية مؤثرة، فهو الكتلة التي «أثرت» في التشكيل الحكومي الذي جاء بنجيب ميقاتي، وكذلك كان الحال مع حليفه العماد ميشال عون الذي أعلن ضرورة تأييده لنظام بشار الأسد ضد الإرهاب والتطرف والمؤامرات الخارجية عليه، وطبعا لا يمكن إغفال مواقف وتصريحات وزير الخارجية اللبناني، الذي أعرب في أكثر من موقف عن رفضه إدانة النظام السوري، وأن تأييده واجب، وكم كان الأمر مضحكا وهو يصف قصف الطائرات الحربية السورية لأكثر من موقع في الداخل اللبناني بأن هذا القصف يأتي من قوات شقيقة، وحتما لا يمكن نسيان تصريحات أكثر من وزير لبناني وهو يصف مئات الآلاف من السوريين الذين لجأوا إلى لبنان بسبب إجرام نظام الأسد وقواته بحق أهلهم ومدنهم، بأنهم «مجموعات إرهابية، لا يجب إغاثتهم»، وضرورة إجبارهم على العودة إلى بلادهم. ووسط كل ذلك المشهد السوداوي كان هناك الشرفاء والوطنيون ممن يحذر وينذر ويتوعد بأن هذا النوع من التأييد السافر لنظام يقتل ويبيد شعبه سيجر لبنان إلى مهالك ومجاهل حالكة السواد لا يعلم أحد عقباها، وسوف يكون لها من الأبعاد ما لا يمكن تقديره ولا حتى توقعه. وهذا الذي حصل كما بات معروفا.

اليوم هناك فريق يعرض تشكيل حكومة بأي أسلوب وبلا شروط، ويتنازل عن مواقف شخصية من أجل مصلحة الوطن، وهناك فريق لا يرى سوى المصلحة الشخصية فقط ويصر على الألفاظ كالمداورة والمحاصصة للإبقاء على مكاسب هشة طمعا في منصب الرئاسة الموعود، وفريق يرى الأمر بمنظور إذا لم تكن الأمور بحسب ما أريد فلن يقدر لأحد أن يكون لها، بأسلوب مليء بالفظاظة و«البلطجة» السياسية.

الفاتورة الاجتماعية والفاتورة الاقتصادية في لبنان بلغت حدودا غير مسبوقة، بل إن مالكي الفنادق والمطاعم في لبنان صرحوا مؤخرا بأن حالة الصناعة لديهم هي الآن أسوأ بكثير من أيام الحرب الأهلية في لبنان، وفي بلد سياحي بامتياز كلبنان هذا مؤشر ليس فقط خطيرا، لكنه كارثي. اللبناني تعود على الأزمات، وتعود على تدبر أموره في خضم الكوارث، وبات خبيرا في التعامل معها، لكن الانشقاق هذه الأيام له أبعاد جديدة ومختلفة، والتدخل الإقليمي لم يعد بـ«الريموت كنترول» عن بعد، لكنه أصبح على أرض الواقع.

قديما كان الانفجار الذي يصيب إحدى الشخصيات السياسية يستهدف الشخصية بعينها، أما اليوم فلا بد أن تكون التكلفة «أعلى»، فدخل لبنان على «خط الانفجارات العشوائية»، وهنا يكون البلد والشعب هو المستهدف وليس الزعيم أو الحزب أو الطائفة.

ولادة الحكومة اللبنانية متعسرة لأن «الأب» لا يزال مجهولا، ولم يتفق على هويته حتى الآن، وإذا جرى الاتفاق عليه ستكون الولادة قيصرية جدا، وإذا لم يجرِ الاتفاق عليه فسيكون الحمل.. كاذبا!